"التنمية الثقافية" وجدلية الأمن والإصلاح

   تمثل خطة التنمية الثقافية (2006- 2008) التي أعلن عنها وزير الثقافة د.عادل طويسي، مشروعا طموحا، ممكن التطبيق. وإذا نجحت الوزارة في تحويل هذا المشروع إلى عمل مؤسسي مبرمج وإنجاز نسبة جيدة منه فستخطو بنا خطوات كبيرة إلى الأمام في وضع لبنات صلبة لحياة اجتماعية- ثقافية تعيد الاعتبار إلى الجانب الأهم والأخطر في إحدى أبرز القضايا التي تواجه مجتمعاتنا اليوم وهي جدلية الإصلاح والإرهاب.

اضافة اعلان

   فأحد الدروس الرئيسة من تفجيرات عمان (9-11-2005) يتمثل بإعادة الاعتبار للجانب الثقافي، بل واعتبار الثقافة بمثابة حجر الرحى في الاستراتيجية الأمنية المطلوبة لمواجهة الإرهاب والتطرف. إذ صارت النخبة الثقافية والإعلامية تنظر إلى "الثقافة" على أنها جوهر "الحل الوقائي" الذي يعالج أسباب المرض ويحول دون استفحاله والاضطرار إلى أساليب علاجية مكلفة على الوطن ومؤسساته.

   الرؤية السابقة وجدت طريقها إلى الرأي العام بقوة. فوفقا للعديد من استطلاعات الرأي هناك نسب مئوية مرتفعة تفضل الحلول الثقافية والفكرية في معالجة الإرهاب على حساب العامل الأمني المحض. وآخر هذه الاستطلاعات هو استطلاع عالم المعرفة (في عمان) وشمل الاستطلاع عينة "فعلية" (قبلت الإجابة عن الأسئلة المطروحة) من 1100 شخص، وترى النسبة الأكبر من العينة 25.5% تفضيل التوعية على الحل الأمني المحض.

   ولا يخرج الاتجاه العام من الدراسات والأبحاث، سواء في العالم الغربي أو العربي، عن الملاحظات السابقة. فأكثر الدراسات ترى أنّ الإصلاح هو السلاح الأنجع في مواجهة الإرهاب، لكن الإصلاح يتطلب وجود ثقافة مدنية سليمة مبنية على قيم إيجابية من الحوار والتسامح والتفكير الموضوعي في الأزمات والمشكلات وسبل علاجها وفهم متقدم للدين ودوره في الحياة الاجتماعية والسياسية، ووجود نخبة من المثقفين والعلماء يتولون تقديم خطاب توجيهي للشباب يحول دون أن تعصف بهم الأفكار التدميرية الهدامة، أو أن يتولى أنصاف المثقفين والمتعليمن توجيه الرأي العام.

   يلتقط د.عباس الجراري، مستشار العاهل المغربي هذه الملحوظة بذكاء، في كتابه الصادر مؤخرا "الإصلاح المنشود"، إذ يرى أنّ دور المثقفين والمفكرين والعلماء، في كل التخصصات، قد تراجع تحت ضغوط كثيرة، وتخلى التيار الأكبر منهم عن أداء رسالته، وفقد المثقفون دورهم الريادي والتنويري في المجتمع، مما خلق "فراغا" كبيرا ملأته الخرافة والدجل والدعوات المتطرفة المغالية التي أبعدت عددا كبيرا من الشباب عن الاتجاه الصحيح في التفكير والفعالية وخلقت إحساسا متبلدا لدى كثير من الناس في النظر إلى التحديات المحدقة ومعالم الإصلاح المطلوب.

   ما نحتاج إليه ليس مؤتمرات وندوات وأحاديث تذهب بالهواء عن خطورة الإرهاب وقصائد شعرية في ذمه والتغزل برسالة عمان. فما نحتاجه هو مواجهة الشروط المنتجة للإرهاب، التي تسرق الشباب الأردني والعربي، وتدفع بهم إلى اتجاهات عدمية تدميرية تعود بالخراب والأزمات عليهم وعلى أهلهم ومجتمعاتهم. وأحد أبرز محفزات الإرهاب هو فقدان البوصلة في مواجهة التحديات والأزمات التي تعصف بمجتمعاتنا، وعدم وجود مراكز لتعليم وتنوير هؤلاء الشباب حول التفكير والإدراك الصحيح لهذه المشكلات ومناهج التعامل معها، وهو ما يتطلب مناخا ثقافيا حيويا وفاعلا قادرا على خلق ديناميكيات للحوار والاستيعاب وتوجيه الطاقات.

   وبالعودة إلى الاستراتيجية الثقافية، فإن العناوين المطروحة لا تمثل فقط معالم وعي جاد ونوعي بالتحدي الأمني ودور الثقافة في الإصلاح ومواجهة الإرهاب، بل تمثل إدراكا استثنائيا ومدهشا لأزمة الثقافة الوطنية الأردنية وأهمية بناء جسور ومراكز رئيسة لترسيخ معالم الثقافة الوطنية المطلوبة بما في ذلك توثيق الذاكرة والتاريخ (مشروع الأرشيف الوطني الأردني) وتوحيد المركز والأطراف من خلال استعادة دور مديريات الثقافة في المحافظات والمناطق المختلفة والمكتبات الوطنية العامة والخاصة والمسابقات الثقافية، بما يمثل قنوات من التواصل وبناء المشتركات وفتح نوافذ متعددة للحوار سواء من خلال برنامج "الاتصال والثقافة المجتمعية" ومشروع "مدن الثقافة الأردنية" أم "البرنامج الوطني لتنمية ثقافة الحوار" و"التنمية الثقافية عبر الانترنت".

   كما تتضمن الاستراتيجية الثقافية مشاريع جديدة تمثل قفزة نوعية، وهي مشروع "الدار الوطنية للنشر والترجمة" و"مكتبة الطفل المتنقلة" و"المجلس الوطني للثقافة والفنون". لكن المهم أن تجد هذه الاستراتيجية طريقها إلى التطبيق العملي، وهو ما يتطلب إرادة جادة وفاعلة، لا أعتقد أن د. عادل طويسي يعوزها، وتمويلا حقيقيا يجب ألا تبخل فيه الحكومة، لأننا أمام مشروع وطني حقيقي يؤدي إلى وجود بوتقة تصهر الجدل الثقافي الأردني وتشكله ضمن مناخات إيجابية من الحوار والتفكير ما يشكل رافدا مهما من روافد الإصلاح , واحتواء وتفعيل طاقات الشباب باتجاهات تخدم المجتمع والدولة.

   أحد أهم التحديات لإنجاح الاستراتيجية الثقافية يتمثل في القدرة على توفير الدعم المالي من القطاع الخاص ومن مؤسسات المجتمع المدني المختلفة. ويمكن، في هذا السياق، استصدار فتوى من علماء وفقهاء معتبرين تؤيد وتدعم التبرع والوقف لصالح المشاريع الثقافية التي تخدم، في مجموعها العام، المجتمع وتطوره ما يمثل أحد المقاصد الرئيسة للشريعة الإسلامية: كالوحدة والقوة والتنمية وفقا للعلماء المعاصرين كابن عاشور وعلال الفاسي وغيرهما.

   في الخلاصة تمثل التوجهات الجديدة لوزارة الثقافة نواة جيدة لاستنهاض الحياة الثقافية واستعادة دور وزارة الثقافة في المدن والمحافظات، ما يمثل استراتيجية رئيسية في حماية وتطوير الشباب الأردني من ناحية، وفي ربط الجزر الثقافية المنتشرة والمتضاربة والتنسيق بينها من ناحية ثانية، وفي الارتقاء في الحالة الثقافية العامة بما يتناسب مع المجتمع الأردني المختزن بالطاقات الشبابية والمؤهلات الأكاديمية من ناحية ثالثة.

[email protected]