"الأقليات الصارخة"!

النخب العربية المثقفة اعتادت النظر الى الدراسات التي تناولت موضوع الأقليات وبالتحديد الدراسات الغربية بنظرة من الريبة والشك، على اعتبار أنها محاولة لتقويض الوحدة الاجتماعية والدعوة الى التجزئة.

اضافة اعلان

ولم تدرك هذه النخب بعد حجم الفخ الكبير الذي تقودنا اليه إشكالية الأقليات في هذه اللحظة التاريخية في اشتباكها مع الوطن والمواطنة ولغز الديمقراطية على الطريقة اللبنانية أو العراقية. فيما لم تتوفر لدينا معرفة موضوعية واضحة حول الطريقة التي يعرف بها الأفراد ضمن الأقليات في هذه البلدان أنفسهم، وكيف يميزون ذواتهم عن الآخرين وكيف يفكرون اتجاه المجموعات الأخرى، وكيف يدركون مصالحهم ضمن نسيج الشراكة الاجتماعية والسياسية من خلال استطلاع وجهات نظرهم ومواقفهم الثقافية والاجتماعية وكيف تفكر الدولة بهم.

تزداد قيمة الانتباه لمصير وآليات التعامل مع الأقليات وحقوقها في ضوء ما وفرته التحولات الراهنة في مجال الإعلام والاتصال الدولي من منابر وفرص تعبير أنتجت ظاهرة تدرك اليوم بوضوح تحت مسمى "الأقليات الصارخة" القادرة على التضخيم والنفاذ عبر الحدود وخلق التأثير بمعدلات مضاعفة لما ساد طوال عقود من التجاهل والصمت والمحو.

الحديث الكثيف عن أثر التحولات الديمقراطية على طمس الولاءات التقليدية للأقليات على اعتبار أن تلك الولاءات تنتعش في ظل الشعور بالغبن والحرمان وتنامي مشاعر الخوف، لا يستقيم حينما تكون الديمقراطية والمشاركة، فخا ينصب لتحقيق المزيد من إعاقة المسار التاريخي للاندماج حيث من المفترض أن المشاركة السياسية تنمي الاستعداد للتوافق والتراضي والقبول بفكرة التنازل عن السلطة للأكفأ، وليست أداة لتفتيت الدولة الوطنية أو العصيان على الديمقراطية باسم الديمقراطية.

أخذ موضوع الأقليات الدينية والمذهبية والإثنية في الشرق الأوسط أهمية واضحة في الدراسات الغربية، ومن أحدث هذه الدراسات، بحث نشر في "مجلة الدراسات التنموية الدولية المقارنة" مؤخرا بعنوان "الهوية والخوف دراسة مسحية في الشرق الأوسط"، واعتمدت هذه الدراسة على استطلاع عينات من أقليات دينية وعرقية الى جانب أبناء المخيمات الفلسطينية، وذلك في كل من الأردن وسورية ولبنان، وشملت الطوائف المسيحية في البلدان الثلاثة والدروز والشركس والشيشان والأكراد والتركمان والمذاهب الإسلامية، مثل الشيعة في لبنان، بهدف الوصول الى تصور هذه الأقليات لذاتها ضمن آليات التعبير عن الذات في المجتمعات العربية، ومستويات الوعي للهوية الاجتماعية والسياسية، وعلاقة الكل الاجتماعي بمضامين تعبير هذه الأقليات عن هويتها، والآليات التي يتم من خلالها التعبير السياسي والاجتماعي والثقافي عن الهوية.

وتفيد الدراسة التي شملت استطلاع(1500) شخص بأن(62%) من أفراد هذه الأقليات اعتبروا أنفسهم أقليات في بلدانهم ومبرر هذا المؤشر حسب وجهة نظر الأقليات ذاتها الشعور بالخوف ومستوى احترام الآخرين، والشعور بالتميز بالقيم الاجتماعية السائدة، ففي حين وجد الباحث أن(14%) قد نسبوا أنفسهم الى هويات وطنية أو إيديولوجية تتمايز عن الهويات السائدة في البلدان التي يسكنونها ويعزي الباحث(ريك هافن) ذلك الى أن جل هذه الفئة من الفلسطينيين الذين عبروا عن أنفسهم بهوية وطنية مستقلة.

تطرح الدراسة مقياسا للموقف الانفعالي بين الأقليات تجاه بعضها البعض حيث تبين أن الدروز الأبعد عن المسيحيين بواقع(71%)، بينما العلويون الأقل بعداً عن المسيحيين بواقع(52%)، ما يفسر تاريخ التحالفات والصراعات بين الأقليات الدينية في كل من سورية ولبنان، وبشكل غير متوقع وصف(38%) من المسلمين عدم اختلافهم في الهوية والانتماء مع الفلسطينيين المسيحيين، بينما(79%) من العلويين عبروا عن اختلافهم عن الفلسطينيين بشكل عام. بينما جاءت الطائفة العلوية خارج سورية الأكثر خوفا وشعروا بالقلق على المستقبل.

هناك تركيز على ثلاثة مداخل أساسية لتجاوز صدام الأقليات والجدل حول الهوية، اولهما الفصل بين مسائل الهوية والصفقات السياسية ثم مدخل التحديث ثم التحول الديموقراطي، إلا أن الخبرة التاريخية خلال ربع القرن الأخير لم تكن منسجمة مع المدخلين الأخيرين. فالتنمية والتحديث والتقدم الاجتماعي وحدها من دون الديمقراطية زادت الكثير من تلك الجماعات الشعور بخصوصياتها وتمايزها، ولم يثبت وجود علاقة طردية بين تنمية الأقاليم البعيدة وتأكيد الولاء للدولة، ففي بعض الأحيان كان الاهتمام بتنمية تلك الأقاليم سببا لمطالبة جماعاتها المتمايزة بالتعبير السياسي عن خصوصيتها الثقافية، أما المدخل الديموقراطي فسيبقى مدخلاً هشاً الى حين نضوجه، حيث من السهل استثمار أدوات الديمقراطية في اضطهاد الأقليات، أو في حالات أخرى تصبح الديمقراطية في هذا المشرق العربي أداة للأقليات لتفتيت بنى الدول الوطنية كما كانت الأخيرة أداة لاضطهادهم وأحيانا تصبح الديمقراطية أداة للعصيان على الديمقراطية.

basim [email protected]