التعليم العالي والإلكتروني بين القرارات الأخيرة والتغيير المطلوب

رسم تعبيري لطالب يتابع تعليمه عن بعد - (أرشيفية)
رسم تعبيري لطالب يتابع تعليمه عن بعد - (أرشيفية)
د. منصور حسين المطارنة * (1) أهم ما يميّز المجتمعات الإنسانية هو ما يتم تبنيه من تغير دائم ومستمر سعيا للتميز والتقدّم والريادة. فالتطوير والتغيير سمتان مهمّتان في منظومة التعليم، والتغيير الإيجابي الذي تسعى له مؤسسات التعليم العالي مرهون بشكل كبير بواقع المتطلبات وتوافر القواعد الأساسيّة التي تضمن التنفيذ الناجح لأي تغيير. لذا يجب اعتماد ممارسات علمية لإدارة التغيير من أجل ضمان التنفيذ الناجح لأي تغيير يتم تبنيه، ويجب أن نتحكّم في المقاومة الطبيعية التي ترافق أي متغيرات من قبل أصحاب المصلحة، يمكن أن تتسبّب في بطء تنفيذ تغيير مهم أو حتى إفشاله؛ لأنّ الهدف الأساس هو التمكين من أجل تحقيق النتائج المرجوة، والأهم هو بناء قناعات إيجابية تجاه التغيير في منظومة التعليم كخيار مستقبلي يجب تبنيه لمواكبة التطورات المتسارعة بالتكنولوجيا وأساليب التعلّم. وبداية التغيير يجب أن تبنى على الخطة الإستراتيجيّة للتنمية البشريّة 2025-2016 والورقة النقاشية السابعة لجلالة الملك؛ حيث تعدّان خريطة طريق لتطوير قطاع التعليم بالوطن، حيث أكدّ جلالة الملك بالورقة النقاشية أن الهدف الأساس هو بناء قدراتنا البشرية وتطوير العملية التعليمية التي هي جوهر نهضة الأمة. مؤخرا، تمّ الإعلان عن مسودة لنظام إدماج التعليم الإلكتروني في مؤسسات التعليم العالي، وقبل أن أبدأ بالحديث التفصيلي عن بعض المآخذ والسلبيات على هذا النظام، والتي تأخذ طابع الملحوظات والنصائح التي تصب في تجويد المقترح لدعم مسيرة البناء والتطوير؛ بداية لا بد من الثناء على كل من ساهم بوضع هذا الإطار القانوني لعملية التعليم الإلكتروني ومأسسته ليصبح جزءًا من منظومة التعليم والتعلّم كخطوة رائدة نحو تطوير التعليم العالي وأساليب التدريس والارتقاء بنوعية التعليم ومواكبة المستجدات والتطورات العالميّة. لكن تغيير السياسات والأنظمة بشكل مفاجئ وغير مدروس، ولأن تأخذ هذه التغيرات لم تأخذ بالأسباب، فستكون نتائجها حتما غير محمودة. والأهم هو معرفة المبررات والدواعي لذلك التغيير وإدراك الحاجة للتغيير. فالجميع مؤمن ويتفهم الحاجة للتطوير، فأنا من الأكاديميين الذين يطالبون بتبني التعليم الإلكتروني والتوسّع فيه والاستثمار به بخطة زمنية مناسبة. وتجربتي الشخصيّة بالتعلّم عن بعد كمثال تعود الى أكثر من عشر سنوات عندما صمّمت مساقا عن الكيمياء بحياتنا أثناء تدريسي في إحدى الجامعات الكنديّة، إضافة الى أنني أستخدم جميع أساليب التعليم الإلكترونية الحديثة وأحرص على مواكبة كل المستجدات التقنيّة التي تستخدم في التعليم وتحقيق مخرجاته. إن تطوير التعليم العالي لن يحصل إذا تم الاستمرار باجتزاء الحلول؛ لأن التعليم منظومة متكاملة متسلسلة مبنية على عناصر من مدخلات ومخرجات، والتطور لن يحصل بتجاوز الأساسيات لصالح حلول وخيارات قد تكون موجبة بالمستقبل لأنه لا أحد يستطيع أن يتنبأ بشكل قاطع عن حالة التعليم العالي في العالم أو عن بنية العلاقات الإنسانية في ظل هذه الثورة التكنولوجية الهائلة وتكنولوجيا الاتصالات. لا نرى في المستقبل القريب أن التعليم سيكون معتمدا بشكل أساسي على التعلّم عن بعد، إلا أنه وبالطبع سيكون خيارا مستقبليا في منظومة التعليم، لكن في وقتنا الحالي يجب أن يكون التعليم الوجاهي هو الأساس والسائد بالدرجة الأولى. أمّا بخصوص نظام إدماج التعليم الإلكتروني في مؤسسات التعليم العالي الذي تمّ نشره مؤخرا، فإنني أرى أنه كان نظاما متسرعاً وغير موضوعي بالنسب المقترحة للتعليم الإلكتروني. وقبل البدء بعرض مبررات هذا الرأي، لا بدّ من التحذير بأن لا يكون هناك أي هدف مخفي في أذهان بعض صنّاع القرار من وراء هذا التوجه والتفكير بنظرة إلى المردود الاقتصادي من حيث تخفيض تكلفة تشغيل التعليم الجامعي لأنّ تخفيض حجم الإنفاق على التعليم حقيقة سيكون نتاجا طبيعيا بسبب تبني التعلّم الإلكتروني. لكن الدول تنفق عشرات الملايين على التعليم العالي لأننا نبني إنسانا وليس منفعة واستثمارا، نبني جيلا قادرا على بناء الأوطان وتقدمها وتميزها. وهناك أهداف أخرى تسويقية لإفساح المجال للجامعات باستقطاب طلبة دوليين من كل أنحاء العالم، حيث بإمكانهم أخذ مواد تعلّم عن بعد (أون لاين) في بلادهم خصوصا عندما تكون نسبة التعلمّ عن بعد كبيرة كما هو مطروح بهذا النظام. هذه دعوة ليست جديدة حيث تمّ تبنيها من قبل الوزير السابق لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي إذ صرّح آنذاك أن التعلّم عن بعد سيصل الى 50 % من مجموع الساعات للبرنامج الدراسي خلال خطة تمتد إلى عدة سنوات، لكن هذا يجب أن لا يكون على حساب مخرجات التعليم. فنسبة الطلبة الأجانب حاليا هي 8 % والهدف العالمي يجب أن لا يقل عن 25 %. لذا وكخلاصة، أطلب من المعنيين تأجيل تنفيذ هذا النظام حتى يتم تحقيق ما سيتم ذكره في سلسلة من المقالات تحت هذا العنوان (أربعة أجزاء)، وأن نقوم بتوفير وتطوير المرافق التقنية والتكنولوجية التعليمية ضمن مواصفات الجودة العالمية، والأهم عدم تحديد نسب للتعليم الإلكتروني وترك الخيار للأقسام والكليات حسب الإمكانات والقدرات. ونؤكد تعزيز استقلالية الجامعات، فلماذا نصر دائما على مركزية القرار وعدم منحها لرؤساء الجامعات لاتخاذ القرارات بشكل منفصل وحسب واقع الحال والإمكانات والقدرات لكل جامعة. فليس من العدل أن نطبّق مثلا هذا النظام وبهذه النسب على جامعات الوطن التي تتمايز بالإمكانات والقدرات. أجزم بأن التطوير المنشود يجب أن يتمثّل بالعمل على استقلالية الجامعات، لا نريد جامعات مسلوبة الصلاحيات واستقلاليتها مفقودة بالمعنى الشامل. ونتمنى أن يكون هناك مؤسسية واتباع إستراتيجية ثابتة لا تتغير مع تغيّر الوزير أو المجلس، وعلى مجلس التعليم العالي والجامعات العمل على متابعة الإستراتيجيات الموضوعة بالأصل ومتابعة مدى تحقق أهدافها وعدم سن المزيد منها، إلّا بعد إجراء تقييم لما تمّ إنجازه والبناء عليه أو تبني مسار تصحيحي لأي خلل رافق تطبيقها، وأن نسعى جاهدين إلى تمكين الطلبة بالمعرفة والخبرات والتدريب اللازم لبناء جيل متسلّح بمهارات القرن 21، وأن نتبنّى خطة إستراتيجية شمولية للتعليم المدرسي والجامعي على حد سواء ونحن ندخل المئوية الثانية. كلنا أمل بنقلة نوعية نحو التميز والازدهار للتعليم العالي في الأردن، وتحقيق تنافسية عالمية لتعزيز هذه المسيرة التي اتخذت شعار التقدّم والبناء والريادة لهذا الوطن الغالي الذي يستحق منا الكثير. حفظ الله شعبنا العظيم والوطن الأغلى وقائد مسيرة النهضة والتقدم *الجامعة الأردنيةاضافة اعلان