الترجمة.. هذا النشاط المعرفيّ المُهمَل..!

ألقت الندوة التي عقدتها مؤسسة شومان حول الترجمة في الأسبوع الماضي ضوءا مستحقا على هذا الموضوع المهمَل. وتناول المتحدثون، في الوقت القصير المتاح، جملة من المشكلات النظرية والعملية التي يعاني منها هذا النشاط المعرفي الضروري، سواء من جهة المحددات الثقافية التي تضيِّق خيارات الترجمة وتقيِّد يديها، أو المحددات التمويلية والمؤسسية التي لا تساعد حيوية هذا النشاط.اضافة اعلان
كان من اللافت، على المستوى المحلي، ما ذكره المنتدون عن الجهود المؤسسية والمحاولات التنظيمية لتفعيل الترجمة في الأردن، والتي كانت قصيرة النفَس وسرعان ما توقفت، ولم تنتج في مجموعها أشياء يُعتد بها. واليوم، ما من جهة تُعنى بالترجمة والمترجمين، ولا بنتاجاتهم وتحسين عملهم والاستفادة من إمكانياتهم.
ليس إهمال الترجمة ظاهرة أردنية، وإنما سمة جامعة للنشاط المعرفي العربي. وفي مقابل العدد الكبير للمنتمين إلى هذه الثقافة، يترجم العرب من العربية وإليها في عقود أقل مما تترجمه دول قومية صغيرة في سنة واحدة. وقد يعود ذلك إلى غياب مشروع عربي جامع، سواء للتكيف المعرفي أو غيره. ولذلك، تُرك موضوع الترجمة لمبادرات المترجمين والناشرين الفردية غالباً، ولبعض المشاريع القطرية التي لعل من أبرزها المشروع القومي للترجمة في مصر، والمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في دولة الكويت، الذي يصدر سلسلة "عالم المعرفة"، بواقع كتاب مترجم كل شهر يباع بسعر قليل.
صحيح أن جوائز الترجمة تساعد في حفز هذا النشاط، لكنها لا تحلّ بالتأكيد مشكلات الترجمة. إنها مكافآت تذهب إلى مترجمين أفراداً ممن صادفوا الظروف والموارد لإنتاج عمل متميز، ولا تصل إلى آلاف المترجمين الذين يعملون في الميدان، أو الذين لا يجتمع عملهم في مصنف يمكن تقييمه. وليست لجان الجوائز جهة الرعاية المطلوبة لإحداث تطوير منهجي في كم ونوع الأعمال المترجمة، أو استعادة القيمة العملية المستحقة للترجمة كمهنة فنية عالية المتطلبات، وتنظيم عمل المشتغلين بها.
في الأردن، ليست الترجمة جزءاً من مشروع وطني لصناعة مجتمع معرفة، والذي لا ينبغي أن يكون مشروطاً بسويّات الحراك المعرفي العربي. ولا بد أن الترجمة تتأثر، ازدهاراً أو ذبولاً، بمدى العناية بالمشهد الثقافي والتعليمي المحلي والقيمة التي تُسنَد إليه في عملية تطوير الإنسان الأردني. وأتصور أن ثمة إهمالاً للأهمية الاستراتيجية لصناعة عقل اجتماعي واع متقدّم وقادر على التفاعل بكفاءة مع التغيرات المعرفية العالمية.
كما أوضح المتحدثون في الندوة المذكورة، ليس ثمة جهة رسمية ولا خاصة تُعنى بشؤون الترجمة في الأردن. وكان السبب في فشل الجهود لتنظيم هذا النشاط هو شح الموارد المالية لتغطية كُلف الترجمة والنشر. لكن ذلك ربما يصاحبه عدم اعتراف بجدوى المشروع من الأساس. وسوف يطمح المؤمنون بأدوار المعرفة دائماً إلى نشوء انتباه متعاطف مع الترجمة، كفاعل حيوي في تأثيث المشهد الثقافي/ المعرفي المهمَل وشبه المقفر.
ربما تكون الجهات الأكثر صلة بقيادة مشروع محلي معقول للترجمة، هي وزارة الثقافة بشكل خاص، ورابطة الكُتاب، والجامعات. ويمكن أن تعمل هذه الجهات مع الراغبين في القطاع الخاص إذا توفرت الإرادة، وتبتكر في توفير التمويل، والتسيير، واقتراح -أو تقييم المقترحات- بشأن ما يُترجم، وإشراك المترجمين المؤهلين في المشروع. ومن المؤسف أن قسما أنشئ للترجمة في وزارة الثقافة الأردنية لم يصمد وتم إغلاقه. وحتى جائزة الترجمة التي تمنحها الوزارة، شاهدت مرة أن عملا مترجما واحدا قُدم لها في إحدى السنوات، وحُجبت الجائزة لعدم أهليته.
على المستوى التنظيمي، لا يُعترف بالترجمة كمهنة، كما ذكر المنتدون. وكثيراً ما يُعامَل عمل المترجمين المعقّد والصعب بالاستخفاف والتقدير المتدني لقيمته. وقد أشار المنتدون إلى "وزن الكتاب المترجم ذهب" في زمن المأمون، بينما لا يكاد يكافأ الآن بـ"وزنه نخالة"، حتى من جهة أكاديمية ينبغي أن تعرف أكثر. وهناك المترجمون الذين لا تتيح طبيعة عملهم ظهور نتائجه في كتب ومصنفات، ولا يعرف أحد عن مشكلاتهم أو يُعنى بحقوقهم المهنية.
في إطار المحاولات الأردنية لإعادة هيكلة التكوين المحلي على مختلف الصعد، تستحق الترجمة، في سياق التطوير المعرفي الواجب، أن تُسند إليها الأدوار وأن يُستفاد من إمكانياتها. وقد تبدأ وزارة الثقافة بالتحديد في التشاور والاستماع وإشراك المعنيين، لإنشاء الهيئة المطلوبة لتنشيط عمل الترجمة.