عالقون في الاغتراب..!

في أواخر السبعينيات، عاد أحد المعارف من حيث يعمل في الخليج لقضاء العطلة الصيفية في البلد، وكنتُ أصادفه في بعض المناسبات. ومع أن المغتربين الذين كانوا يأتون للزيارة في الصيف كثيرون، فإنه تميّز باندماجه المفرط في المغترَب، بحيث أصبح يرتدي "الثوب" ويتحدث بلهجة الخليج، ويقص لحيته على طريقة أهل تلك المنطقة بحيث لا يكاد يتميز عنهم.اضافة اعلان
كان يعمل في "خورفكان"، المدينة الإماراتية على ساحل خليج عُمان، والتي لم يسمع بها الكثيرون. وفي تلك الفترة في أواخر السبعينيات، كانت لزوار الصيف الذين يعملون في الخليج هيبة -خاصة إذا قادوا سياراتهم الحديثة نسبياً كل الطريق إلى هنا من حيث يعملون. وفي الحقيقة، كانت زيارتهم تُغيّر الرتابة، وكانوا يجلبون معهم الهدايا –قطع القماش والولاعات والدشاديش، وأحياناً أجهزة تلفزيون "ناشيونال" ذات الباب السحّاب. كما يمكن لأقاربهم في عمّان، الذين لم يكن أغلبيتهم يمتلكون سيارات، أن يتباهوا بالسيارة الفخمة أمام الباب.
كان المغتربون الأردنيون يتميزون حقاً في تلك الأوقات. لا أحد كان يعرف، بالطبع، نوع المعاناة التي يقاسيها معظمهم في الطقس الحارق، أو في القرى الصحراوية النائية حيث يعملون. لكن المغترب كان يستطيع -في غضون بضع سنوات- أن يتزوج، ويشتري قطعة أرض، ويشرع في بناء بيت، وينتشل أهله من الفقر بالتحويلات والهبات. ولم يكن العثور على فرصة للعمل في الخليج صعباً كثيراً في تلك الأوقات: تكفي شهادة معهد أو جامعة أو تدريب مهني، أو إتقان صنعة، لبدء المحاولة.
الآن، تغيرت صورة المغتربين وأحوالهم عن صورة معلّم خورفكان –أم ان الانطباع تغيَّر بذهاب دهشة الطفولة؟ اليوم، أصبح الكثير من المغتربين لا يسافرون بحثا عن دخل أعلى وشراء أرض وبيت في وقت قصير. وباستثناء مَن رحِم ربي ممن يجدون عملا مهما براتب كبير، يذهب شبابنا اليوم إلى الخليج لمجرد العمل، برواتب لا تكاد تغطي كُلف العيش اليومي. وقد أصبح من الصعب أن يدخر أحد هناك ليشتري أرضا وبيتا ويغدق على أهله بالتحويلات والهدايا. ولم تعد السيارات -إذا عاد أحد في الصيف بسيارة- شيئا يستدعي التباهي. بل إنّ البعض هنا ينظرون باستخفاف إلى سيارات المغتربين ذات اللوحات الأجنبية، باعتبار أن ثمنها أرخص كثيرا من مثيلاتها هنا.
عندما نسمع الأصدقاء والمعارف المغتربين الآن -أولئك منهم الذين تخلصوا من التظاهُر أو دفعهم الضيق إلى المجاهرة بالشكوى، فإنهم سيحدثونك عن مأزق. الشبان سيخبرونك عن رواتب منخفضة قياسا بمتطلبات العيش في تلك الأماكن، بحيث يسكنون مع شركاء، ويجاهدون لمساواة الحسابات آخر الشهر. وسيخبرونك بأن ما يعادل 1000 أو 1500 دينار لا تسمح بإنشاء أسرة هناك كما كان يحدث في السابق. وسيقول لك كثيرون أنهم لو وجدوا عملا بنصف هذا الراتب في البلد فإنهم سيعودون.
والقدامى سيحدثونك عن الاعتياد وصعوبة التغيير لو فكروا في العودة إلى البلد، خاصة وأن الأولاد وُلدوا هناك، ولهم مدارسهم وجامعاتهم ومحيطهم الاجتماعي الذي ألفوه. وأيضاً، إذا فكروا في العودة، فإنهم لن يجدوا عملاً للأبناء ولا لأنفسهم في البلد. وإذا وجدوه فإنه لن يغطي احتياجاتهم –حتى بالمقاييس المحلية. وستسمع عن تأثير الأزمة الاقتصادية العالمية على بلدان الاغتراب، وعن إحلال العمالة المحلية، وعن الأعمال التي تُغلق وتسرح عامليها، وورطة بطاقات الائتمان، والكثير من عوامل الضغط والقلق.
على الأغلب، لم تعد العودة إلى البلد خياراً للعالقين في المغترَبات. لم يَعد الأمر يتعلق بإغواء البقاء سنة أخرى لبناء طابق إضافي في البيت، أو إضافة دنانير أخرى إلى الرصيد البنكي لضمان الشيخوخة أو العودة لفتح مشروع. أصبح الأمر يتعلق أكثر بأن الوطن لم يعد مضيافا لأبنائه بطريقة ما. وأصبح طعم الغربة المرير أقل مرارة من الجلوس هنا بلا عمل وانتظار قطار لا يصل.
من المغوي أن نقول لشبابنا الباحثين عن الخروج، أو لأحبابنا في المغترَبات، تلك العبارة العاطفية: "ابقوا هنا، أو عودوا إلى هنا، الوطن في حاجة إليكم لتبنوه"، لكن الحقيقة هي أن هذه دعوة إلى الجلوس "على الدوار" في انتظار أن تلتقطهم سيارات أصحاب العمل، ليعودوا في المساء خالي الوفاض. ومع ندرة الفرصة وضيق الخيارات في الوطن، لم يعد الاغتراب رحلة اختيارية، وإنما منفى قسرياً مفتوح النهاية.