الله يكبّر واجبك "السياسي"

في سجن سواقة العام 1989، اعتقل بضع عشرات من الحزبيين، على هامش "هبة نيسان" في الجنوب، إلى جانب مئات من المعتقلين من مواطني الجنوب نفسه، من معان خاصة، الذين شاركوا فعلاً في الاحتجاجات.اضافة اعلان
كان اعتقال الحزبيين احترازيا في أغلب الحالات، وقلة منهم وخاصة من الكرك والسلط، شاركوا فعلاً في احتجاجات الأيام الأخيرة. وقد صدف أن كنت بين المعتلقين الاحترازيين.
يقوم نظام السجن على الفصل بين المساجين وفق قضاياهم، وبناء على ذلك، وُضِع الحزبيون في مكان خاص منفصل عن مكان معتقلي الجنوب، غير أنه كان يحصل أحياناً قدر من التواصل السريع.
ذات نهار، وفي الطريق إلى مطعم السجن حصل لقاء سريع بين الفريقين، ودار الحوار الآتي بين سجين معاني وآخر حزبي:
المعاني: لماذا أنتم مسجونون؟
الحزبي: مثلكم، بسبب الاحتجاجات.
المعاني: ولكن لا يبدو عليكم الفقر، فلماذا تحتجون؟
الحزبي: لأننا من الأحزاب.
المعاني: لا يوجد لها "محل" عندنا.
ثم مشى كل فريق في طريقه.
كان الفارق الطبقي بين الفريقين واضحا، تكشف عنه حالة الوجوه والبشرة ومستوى السمنة والكدح والتعب ومظاهر أخرى كثيرة.
لكن من المفيد الإشارة إلى أنه وبصورة عامة، فقد كان المحتجون في البلد صنفين: الأول يحتج لأنه فقير ويعاني فعلاً ومباشرة، والثاني يحتج لأسباب سياسية/ ثقافية احترافية.
بالنتيجة الإجمالية، بدأت الدولة بعد تلك الهبة، عهدا جديدا اصطلح على تسميته بالانفتاح الديمقراطي؛ حيث جرت انتخابات نيابية حرة، وسمح للمعارضين بخوضها، ثم ألغيت الأحكام العرفية وشرعت الأحزاب والصحف والمنظمات... الخ.
هذا يعني أن المجتمع كوفئ على العموم، ولكن من المؤكد أن المحتجين المباشرين ومن بينهم مئات المعتقلين من أبناء الجنوب لم يكن لهم النصيب الذي يرغبونه من المكافأة، لأن مناطقهم ازدادت فقراً وتفاقمت معاناتهم. ومثلهم بالطبع كل مجتمعات الفقر في باقي المواقع.
في الأسبوع الماضي، تكرر المشهد ذاته على الأقل من حيث المضمون، فصحيح أنه لم تجر اعتقالات واسعة هذه المرة، لكن اللقاء الموصوف أعلاه بين صنفي المعتقلين في سجن سواقة العام 1989، تكرر في الأسبوع الماضي على مواقع التواصل عبر الفيديوهات المنشورة، ثم حصل عند اللقاء المباشر على الدوار الرابع، بين المحتجين من الشباب وبين محتجي المحافظات الذين حضروا إلى عمان في الليلة الخامسة.
إن المشاهد التي شاهدت بعضها بعيني، ونُقل كثير منها عبر التواصل الاجتماعي، كانت من حيث الجوهر تكرارا للحوار الذي جرى في سجن سواقة قبل حوالي 30 عاماً.
من الواضح أن "توزيع البطولة" في الاحتجاجات يختلف هذه المرة عن سابقتها، فاليوم احتل محتجو العاصمة المكانة الأبرز، وهذا حقهم بالطبع لأن البداية كانت في عمان، لكن لا ينكر أحد أن انتقال الاحتجاج إلى المحافظات وما اتخذ من أشكال أكثر عنفاً، أسهم في دفع الدولة للتعامل بجدية، وفي الوصول إلى النتائج التي شهدناها.
في العام 1989، شعر الأردنيون والمجتمع كله بالامتنان لأهل الجنوب ولتضحياتهم، واستمر ذلك لغاية الآن، فيما قبِل أهل الجنوب بهذا "التوجيب" السياسي، الذي لم تصاحبه خطوات تجيب عن دوافع الاحتجاج، التي تتركز في الجانب المعاشي.
اليوم من الواضح لغاية الآن أن نصيب فقراء المحتجين من عوائد الاحتجاج قليل (استقالة الحكومة وسحب قانون الضريبة)، لكن المأساة الإضافية هذه المرة، أن نصيبهم من "التوجيب السياسي" قد يكون معدوماً.