صناعة اللجوء السوري.. السوق واقف!

قبل أشهر عدة، قمتُ وعلى مدى أسبوعين بزيارات عدة لمخيم الزعتري للاجئين السوريين، وأمضيت فيه عشرات الساعات استمعت فيها للعديد من قصص اللجوء. كانت أسئلتي مركزة على التجربة الشخصية للاجئ؛ ما الذي مرّ به شخصياً، وما الذي شاهده وعاينه بنفسه، وما هي الفترة التي قضاها بعد سيطرة "الثورة"، ومن هم "الثوار"، وكيف تعاملوا مع السكان، ومتى ولماذا قرر الرحيل، وما هي المراحل التي مر بها قبل وصوله إلى الزعتري، ومن سهّل له الأمر أو قاده وأرشده، وهل دفع مقابل ذلك المال لأي جهة، وماذا كان في ذهنه من أفكار حول اللجوء ومدته ووضعه، وكيف اختار مكان إقامته في المخيم، وكيف تابع ما يجري في بلده، وهل اختلفت المتابعة مع مرور الزمن... وغير ذلك من تفاصيل.اضافة اعلان
لقد حصلت على أجوبة متنوعة جداً، وفيها ما يغضب خصوم النظام حينا وأنصاره حينا آخر!
لم يكن من بين أهدافي التعرف على الموقف السياسي للاجئين، غير أنه بسهولة يمكن التعرف أن الأجواء العامة في المخيم تعارض النظام، مع أن الملاحظة البارزة بالمقابل، أن غالبيتهم فقدوا الثقة نهائيا بالمعارضة وبـ"الثوار"، وقد سمعت كلاما وتقييمات مؤلمة بالنسبة لهم في هذا المجال.
كما لم يكن من مهمتي مناقشة المتحدثين في قناعاتهم، أو إبداء الاستياء أو الاستحسان تجاه أي موقف أو فكرة، غير أني في الواقع ازددت احتراما وتقديرا لسكان المخيم من الأشقاء السوريين، ربما لسهولة وسرعة الانسجام، فأغلبهم من مناطق درعا وقراها؛ أي من الشق السوري من حوران، فيما صادف أنني من الشق الأردني لحوران، فكانت اللهجة والمفردات والانفعالات أليفة.
كثيرون منهم يحملون الآن أسئلة حائرة عما جرى أمامهم، وهم لم يفيقوا بعد من الصدمة، فقد تحدثوا عن مشاهد غامضة لا يعرفون لها تفسيراً حصلت أمامهم وفي قراهم، وقسم كبير منهم تحدث عن أسابيع قليلة فقط كانوا خلالها يفهمون ما الذي يجري، لكن الصورة اختلفت بسرعة ولم يعودوا يسيطرون على المشهد، وظهرت جماعات مصالح وأموال وتصفية حسابات بين "الثوار"، مع أن بعض اللاجئين يعزو ذلك إلى السلطات الرسمية، لكن أغلب من استمعت إليهم يضعون علامات استفهام حول مسارات "الثوار" وارتباطاتهم المستجدة... الخ.
كنت قبل ذلك، ومنذ بداية الحرب، أتابع بذهول أحياناً، بعض تفاصيل اللجوء ودوافعه، وأذكر جيداً الخبر الأول الذي تحدث عن لجوء جماعي إلى الرمثا (مدينتي) وقراها، وكان ذلك في الأسابيع الأولى للأزمة، وقد بثته فضائية "كبرى". وكغيري صدقت الخبر، ولكن معاينة سريعة لما جاء فيه كشفت عدم صحته، وقد حاولت بحسن نوايا مهنية، تنبيه الزملاء في الفضائية إلى ضرورة الدقة، لكنهم "جرجروني" على الهاتف حرجا من الحقيقة كما يبدو، ليتضح أن في الأمر تلفيقاً مقصوداً. وعلى المستوى الشخصي، كان لتلك الحادثة الأثر الأول في تصويب موقفي.
أسوق هذا الكلام، لكي أشير إلى "صناعة لجوء" نشطت في الأزمة السورية، وقد اشتغلت فيها أطراف داخل سورية وخارجها، وعلى مختلف حدود الدولة السورية.
صناعة اللجوء تلك فقدت سوقها الآن، وقد تراجع الباعة والمشترون والمروجون، وفي السنوات الأخيرة أخذت الدولة السورية تدير عمليات النزوح الداخلي في مواقع القتال، كما تدير عمليات إعادة السكان إلى المناطق التي تحررها.
اليوم، هناك أصوات تتحدث عن احتمال موجات لجوء جديدة في حالة اضطرار الجيش السوري للقتال في جنوب سورية، ولعلها المحاولة الأخيرة اليائسة للاستخدام السياسي لقضية اللجوء. ولحسن الحظ، فإن الموقف الرسمي الأردني يعي ذلك ويتصرف لغاية الآن بمسؤولية وطنية.
أيها المهتمون بقطاع صناعة اللجوء، اطمئنوا.. "السوق واقف" هذه الأيام.