منهجية الخطاب

لا يمكن وصف خطاب حلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين أمام الدورة الحالية للجمعية العامة للأمم المتحدة إلا بأنه خطاب إستراتيجي بالمعنى الدقيق، فتلك المنهجية الفريدة من نوعها جعلت من مفتتح الخطاب ( عندما تفوق الكوارث الوصف ) عنوانا أو مدخلا لتنبيه قادة العالم بأن الخيارات أصبحت محدودة ، فإما أن تفقد البشرية مقومات وجودها، وإما يعيد المجتمع الدولي ترتيب أولوياته تجاه الأمن والسلام والتنمية والعدالة الإنسانية.

اضافة اعلان


بداية يلفت من خلالها جلالة الملك أنظار الجميع من خلال احصائيات ضحايا الجوع والنزاعات والكوارث الطبيعية إلى أن المخاطر تتعاظم من يوم إلى يوم، وأن ترك المشكلات التي تعصف بالعالم دون حل يعني أن اختلال النظام العالمي للدول يساهم في زيادة تلك المخاطر، ولا يعمل ما ينبغي لتغيير المسار نحو الاتجاه الصحيح ، ثم يترك السؤال الاستنكاري مفتوحا (هل هذا ما وصلنا إليه ؟ هل سيقف المجتمع الدولي مكتوف الأيدي؟)!


يدرك جلالة الملك أن ممثلي الدول جميعهم مطلعون على تلك المخاطر ولكنه تبعا لتلك المنهجية القيمية يمنح الأرقام روحا لكي يستفيق الضمير الإنساني بأن الضحايا هم شيوخ ونساء وأطفال وشباب فقدوا أبسط حقوقهم الطبيعية، وتحطمت أحلامهم بسبب نزاعات كان يمكن حلها لو توفر التضامن المطلوب الذي يعطي للأمم المتحدة مصداقيتها، ولو احترم الجميع مواثيقها واتفاقياتها، وتحملت منظماتها مسؤولياتها القانونية والأخلاقية.


من هذا المنطلق عرض جلالة الملك الأردن نموذجا لدولة قليلة الإمكانات، تعد من أفقر دول العالم من المياه قدمت رغم ظروفها الاقتصادية الصعبة كل ما تستطيع من أجل العناية باللاجئين السوريين الذين يتجاوز عددهم المليون و200 ألف إنسان، ليدفع بذلك ثمن نزاع لا علاقة له عمليا، كحال بقية نزاعات المنطقة، وليقول بوضوح إن المسألة لا تتعلق فقط بالقدرات المالية للدول القادرة من أجل تخفيف المعاناة، وإنما بالقيم والمبادئ والمثل العليا التي تضمن الكرامة الإنسانية، وحق الإنسان على أخيه الإنسان، وكأنه ينبه إلى أن العنصر الأهم للتضامن العالني هو عنصر أخلاقي قبل أن يكون عنصرا ماديا !


وفي السياق ذاته عرض جلالة الملك القضية الفلسطينية من تلك الزاوية سواء من أجل منح الشعب الفلسطيني حقه في إقامة دولته المستقلة بعاصمتها القدس الشريف، أو من أجل أن تقوم الوكالات الأممية المتخصصة، وفي مقدمتها الأونروا بمسؤولياتها في مساعدة اللاجئين الفلسطينيين أو أن تختار بين أن يدرس أبناؤهم في المدارس التي ترفع علم الأمم المتحدة أم تتركهم يضيعون وراء أعلام اليأس والتطرف، ومن هذا البعد الإنساني يعيد جلالة الملك السؤال عن مصير قرارات الأمم المتحدة بشأن تلك القضية، بل عن مصير مصداقيتها ودورها في إقرار قواعد الأمن والتعاون والسلام العالمي.


وأي ختام رائع ذلك الذي أنهى به جلالته خطابه التاريخي وهو يعود إلى بدايته ليؤكد مرة أخرى أن الضحايا الكوارث والنزاعات ليسوا مجرد إحصاءات وأرقام ( إنهم اخواننا وأخواتنا في الإنسانية وشركاؤنا في عالمنا ولا يمكننا أن نصنع المستقبل الذي نطمح إليه من دون التضامن بيننا جميعا) لتكون الجملة الأخيرة بمثابة القول الفصل بالنسبة للمسؤولية التي يتحملها القادة (لا يمكننا أن نسمح بضياع جيل بأكمله ونحن في موقع المسؤولية).


لم يكن خطاب جلالة الملك مجرد خطاب يلقيه قائد دولة عضو في الأمم المتحدة كما جرت العادة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة إنه في الحقيقة رسالة واضحة وحاسمة مفادها أنه لا يمكن الاستمرار بهذا النمط السائد في العلاقات الدولية، ولا بهذا الاستخفاف بما توافق عليه العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية من تضامن في سبيل المحافظة على الأمن الدولي بجميع أبعاده، والتعاون من أجل نهضة الدول وسلامة واستقرار شعوبها . 

 

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا