مستجيرون من الرمضاء بالنار.. أهال من غزة يعيدون للأذهان مشاهد التغريبة الفلسطينية

1699869376224885100
مشاهد من نزوح عائلات من مناطق الشمال في غزة الى الجنوب - (ارشيفية)

يجلس الحاج أبو نشأت (85 عاما)، أمام شاشة التلفاز صامتا، يمسح بيد دموعه بطرف حطته البيضاء التي يضعها على رأسه، يتكئ بالأخرى على عكاز يضربه كل قليل بالأرض قهرا، يتحدث مع نفسه، يحتسب أمره لله، ويدعوه بفتح قريب، يقرأ الأخبار العاجلة بصعوبة، ويسرح في ماض عاشه مرتين.

اضافة اعلان


أبو نشأت واحد ممن عاشوا نكبة فلسطين مرتين؛ الأولى عندما كان طفلا لم يتجاوز عمره العشر سنوات، عندما نزح مع أهله من قريته في مدينة يافا الفلسطينية مع أهله إلى طولكرم، ومنها إلى الأردن لاجئا، والثانية، شاهدها على التلفاز، من نزوح جزء من أهالي غزة من الشمال إلى الجنوب، مع استمرار العدوان الإسرائيلي بعد عملية طوفان الأقصى.


في مسلسل التغريبة الفلسطينية، لمخرجه الراحل حاتم علي، أعاد العربي إلى ذاكرته مشاهد اللجوء، وكأنه عاشها مرة أخرى، لكنها كانت سردا لما حدث، وآخر ما توقعه الحاج أن يرى تغريبة وظلما ونزوحا جديدا في فلسطين، لكن مع صور حقيقية، وبألوان الشاشات الحديثة، وفي عصر الهواتف الذكية، على وقع القنابل والصواريخ الإسرائيلية، التي تقع على رؤوس المدنيين، بحجة أنهم إرهابيون.
هذه المشاهد، استرجعت للذاكرة الجمعية قصيدة التغريبة الفلسطينية، لإبراهيم طوقان، التي قال فيها "لا تَسلْ عن سلامتِهْ روحه فوق راحتِهْ بدَّلَتْهُ همومُهُ كفناً من وسادِتهْ يَرقبُ الساعةَ التي بعدَها هولُ ساعتِهْ شاغلٌ فكرَ مَنْ يراهُ بإطراقِ هامتِهْ".


هذه القصيدة تحدثت عن معاناة أهل فلسطين التي شهدوها في مراحل الاحتلال العديدة، بدءا من الانتداب البريطاني وانتهاء بالاحتلال الصيهوني، والتي سميت أيضاً بقصيدة الفدائي لأنها تتحدث عن الفدائيين الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل أرضهم التي يعشقون ترابها.


المنتج والمخرج صلاح أبو هنود، مخرج مسلسل الدرب الطويل، الذي يعد القصة السياسية من مسلسل التغريبة الفلسطينية، الذي أشار إليه الجميع خلال عرض مشاهد النزوح الحقيقية التي يعيشها مجموعة من الغزيين اليوم، يقول لـ"الغد" متأثرا، وباكيا، مستذكرا ما حدث له ولعائلته في النكبة.


يبين أبو هنود، أنه كان طفلا في قرية عصيرة في نابلس، والده يملك دكانا في حيفا، لكن خلال الصراع اليهودي ما قبل النكبة، وخراب البلاد، قرر العودة في القطار إلى نابلس حيث عائلته، لكن العصابات اليهودية اقتحمت القطار وهاجمت من فيه، إذ وصف ما شاهده من حمل عدد من الرجال لـ"كرة الثلج"، وكان المقصود والده الذي كسر كل ما فيه جراء هذا الهجوم المتطرف اليهودي على الفلسطينيين، وجسده مغطى بالجبس لعلاج كسوره. وضع والده جعل العائلة تعيش أوضاعا مادية صعبة، بعدما كانت ميسورة الحال، فاضطر إخوته الكبار إلى ترك دراستهم والبحث عن عمل حتى يعيلوا العائلة، حتى أن والدتهم اضطرت للعمل حتى تجلب رغيف الخبز.


يضيف أبو هنود، أن كل هذه المآسي عاشها الفلسطينيون وأكثر قبل النكبة، وعندما جاء الهجوم الهمجي من قتل وسرقة وتهجير، اضطروا لترك البلد وتهجيرهم، وعيش النكبة وحمل مشاعر الحزن والفقد والخذلان والحنين، وعملوا بأيديهم وأسنانهم، في محاولة لتأسيس حياة لهم ولأبنائهم، ليخرجوا الطبيب والمهندس، من رحم المعاناة.


يتابع أبو هنود اليوم هذه المشاهد، ويخاف من تكرار المأساة، مؤمنا أن الشعب الفلسطيني يظلم ويقهر لكنه المنتصر دائما وأبدا، فالتاريخ والديانات تعرف أن للكيان اليهودي الصهيوني نهاية، وهي قريبة ولن تقوم لهم قيامة أخرى، وأن الشعب الفلسطيني، وإن عاش قهره وسكب دماءه لأجل الوطن، فرسالته عظيمة والله اصطفاه بين منتصر ومعيد لأرضه وبين شهيد عند الله. ويؤكد، من تجربته الخاصة، أن حياة اللاجئ صعبة، والتجربة تدمير ذاتي مشابه للموت وأنت على قيد الحياة، لكن الشعب الفلسطيني متماسك بحبه للأرض وعقيدته، فمن يلجأ يمكن أن يكون شديدا ويتماسك سريعا، ومنهم من يحتاجون لسنين طويلة، لكن في النهاية ينتصرون مؤمنين بالعودة.


ويؤكد أن الشعب الفلسطيني بكل أجياله وعلى مر الزمان والعصور من عاش النكبة حقيقة أو في خياله عندما استمع لعائلته التي تهجرت ومن يشاهدها اليوم من نزوح للغزيين، يتألم ويتعذب لكن لا ينهزم.


وفي هذا السياق، تؤكد رنيم المصري، أنها عاشت النكبة مرتين؛ الأولى في خيالها من أحاديث عمها "أبو علي"، الذي رحل قبل نحو 15 عاما، والثانية، هذه الأيام، بعد مشاهد تهجير جانب من الغزيين، في رحلتهم من الشمال إلى الجنوب، سيرا على الأقدام.


رنيم تقول، إن عمها "أبو علي" كان يجمع العائلة للحديث عن لحظات اللجوء بعد القتل والترويع الذي مارسته عصابات الاحتلال الإسرائيلي على الفلسطينيين، وكيف ساروا أياما وليالي في ظروف قاسية، وكيف انحرم من إكمال دراسته، واتجه إلى التجارة، ليعيل عائلة مكونة من 7 أفراد أكبرهم لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره.

 

وتشير رنيم إلى أن العائلة كانت تستمع بحرص شديد إلى كل التفاصيل، فمنهم من كان يفتح عينيه متفاجئا مما حدث، ومنهم من بكى، ومنهم من سرح في عالم بعيد، متخيلا اختلاف الظروف لو ظلوا في وطنهم من دون تهجير ولا ألم.


اختصاصي التاريخ والحضارة الإسلامية الدكتور صالح الشورة، يقول "ما يقوم به الاحتلال الإسرائيلي هو تطهير عرقي أو إبادة جماعية، وهذه المرة على مسمع ومرأى الدنيا كلها، حتى أن الإنسان الفلسطيني أو الغزي تحديدا مدرك بأن نزوحه تحت أنظار وأسماع الجميع، ولعله يقول للعالم انظروا ماذا حل بنا ولا تستغربوا ما الذي سيقع في المستقبل".


ويشير إلى أن الذاكرة الشعبية الجمعية للإنسان الفلسطيني مأساة مليئة بفقدان الأمل، فهؤلاء الذي اتجهوا للجنوب وبدا أنهم نجوا من الموت والقتل، لكنهم لم ينجوا من الألم، مشبعون بالموت والأحزان.


ويؤكد الشورة، اعتماد العقلية الصهيونية على إحداث أفعال متشابهة من تدمير ممنهج وقتل وتشريد ونشر القتل والدماء والخوف والهلع ثم انتظار نتيجة متشابهة مع ما سبق، وهي طرد الشعب الغزي من أرضه كما طرد الشعب الفلسطيني من أرضه سابقا، وهذا ما لم يحدث ولا أظنه سيحدث بإذن الله.


ويذكر أن الأحداث الأولى كان الموت هو المرعب، ولكن في هذه الأيام أصبح هو المحفز، فـ"أهل غزة" يقبلون على الموت كما يقبلون على الحياة، فالمرة الأولى العام 1948، اعتقد الفلسطيني بوجود من يدافع عنه حتى وهو يسير باتجاه المجهول، وعزز فيه هذا الشعور بأنه منذ الصدر الأول للدولة العباسية وحتى سقوط الدولة العثمانية لم يدافع العربي عن نفسه ووجد هناك من يدافع عنه.


ويضيف "في حالة غزة الوضع مختلف، فمنذ 1948 بشكل بسيط، ثم سنة 1967 بشكل أوسع، أيقن الإنسان العربي، خاصة الفلسطيني وابن غزة على التحديد، بأنه لا بد أن يخلع أشواكه بيديه وأن يتولى مهمة الدفاع عن أرضه وعرضه وطرد المحتل، وهذا لم يدركه دولة الاحتلال، وإلا كيف سقطت بلحظات في 7 أكتوبر أسطورة الجيش الذي لا يقهر، فالمشهد بين الصور المختلفة (نكبة ونكسة وغيرهما) هو مشهد مختلف حزين وغريب! ففي الصور الأولى لا يعرف ما الذي سيحدث وإلى أين ستأخذه أقداره، وفقد الأمل أكبر في الأمة العربية قاطبة، أما في هذه، فهو ما يزال يقاتل وكأنه يعلن للجميع على الملأ بأن الحرب دورة، يوم لك ويوم عليك، ويرسل للعدو قبل الصديق بأنها لن تكون الأخيرة، وهذا مخيف أكثر بالنسبة للصهاينة، وإن كان خروجه نازحا مجبرا، فإنه في هذه سيكون أشد عودا وقوة وأكثر تحملا من سابقاتها". ويشير الشورة، إلى أن العملية التي ينفذها الصهاينة التي دفعت مجموعات كبيرة من الناس إلى الهروب الواسع والكبير من المدينة من الشمال إلى الجنوب أوهمته بالانتصار وانتظار النتائج، لكن لم يكن في حسبانه التغير الكبير الذي حل على العقلية الفلسطينية في التعاطي مع الأحداث واحتمال النتائج. وفي المشاهد عبر شاشات نشرات الأخبار، التي شاهدها جميع العالم، سواء في بيوتهم أو عبر هواتفهم الذكية، من نكبة جديدة ملونة، فهنا عجوز ثمانينية تنزح للمرة الثانية في حياتها تسير منحنية الظهر، لا تقوى على الحديث، بعدما أجبر الاحتلال أهل غزة على عدم استخدام المركبات، متقصدا إعادة مشاهد النكبة الأولى، وهناك، أم لطفلين، جرتهما بكرسيين خلفها لساعات متواصلة بحثا عن الأمان، وهما لا يدركان الألم حولهما، يظنان ببراءة الطفولة أنهما في نزهة جميلة.


وشاهد العالم طفلة تسير على خطى غربة جدها، التي عاشها العام 1948، وهي اليوم في عمر 8 سنوات، آملة ألا تضطر لعيش نكبة أو نكسة أخرى، وهذا الصحفي وائل الدحدوح الذي فقد عائلته، في قصف إسرائيلي يصف ترك الديار بأنه "ليس سهلا"، وفي عينيه حديث يوحي بأنه فقد عائلته مرتين، ولا يكفي كل هذا ليشفي غليل الاحتلال، الذي اختار قتل العزل، وهم يحملون الرايات البيضاء أمام المستشفيات، في مشهد صمت كل المجتمع الدولي أمامه، من دون حراك إلا من بعض عبارات الشجب والاستنكار.


ويؤكد اختصاصي علم الاجتماع الدكتور محمد جريبيع، أن مشاهد نزوح عدد كبير من الغزيين من بيوتهم والسير مشيا على الأقدام حاملين مشاعر الحزن والأسى والفقد والرحيل وترك الذكريات والأهالي من خلفهم، أيقظت جروح الماضي للفلسطينيين المهجرين في العالم بعد نكبته العام 1948 وما قبل.


ويقول، إن من عاش هذه التجربة اليوم تعود مشاعر القهر له، وللأجيال التي استمعت لعائلتها المهجرة في تلك النكبة، وعاشوا ظلم هذه الأيام أكثر من غيرهم، فالكلمات والدموع التي رسمت في مخيلتهم عن يوم النزوح، عاشوها بنفس الأسى والقهر متخوفين من عودة التاريخ بتفاصيله.


ويتحدث أن الشعوب العربية عاشت وعاصرت التغريبة الفلسطينية في نكبتها الأولى إما حقيقة، أو من عاشها في كتب التاريخ وشاهدها دراميا وبسماع القصص، لكن اليوم نشاهدها مكتوفي الأيدي متجرعين الألم وحسراته غير قادرين على التعبير عن الظلم الذي نشعره وما يجول في داخلنا.


هنالك من عاش تجربة اللجوء وترك حياته وبيته وأرضه واضطر لتأسيس حياة في بلد آخر وكانت هذه الطريق صعبة، إلا أن مشاعر القهر وصعوبة النزوح والتخلي وتبعاته هي الأصعب الآن، وأثرها النفسي أكبر.

 

 

اقرأ أيضاً: 

هل أجبرت المنظمات على النزوح جنوب غزة بعد تزايد وتيرة العدوان الوحشي؟

جيش الاحتلال يمهل سكان شمالي غزة 6 ساعات للنزوح إلى الجنوب