"استشهاد هند".. لماذا علينا أن نعيش الموت مرارا منذ قرن؟

الطفلة الشهيدة هند رجب-(وكالات)
الطفلة الشهيدة هند رجب-(وكالات)

"تعالوا خذوني.. خايفة أنا.. أمانة تعالوا". بهذه المناجاة الأخيرة للطفلة الفلسطينية هند رجب (6 أعوام)، أثناء محاصرتها في سيارة بجانب جثامين عمّها وزوجته وأطفالهما الأربعة، الذين استشهدوا بنيران الإرهاب الصهيوني الحاقد على الحياة، أثناء محاولتهم النزوح من شمال غزة، اتقاء لجرائم الإبادة الجماعية التي ترتكب هناك، ستنحفر كلماتها عميقا في الوجدان الفلسطيني، وربما الإنساني إذا بقيت ثمة إنسانية بعد، ترى دم الفلسطيني المسفوح قهرا على ثلج العالم وصمته المفجع.

اضافة اعلان


صرخات هند، ترددت في محيط دائرة الاستماع فقط، طيلة 12 ليلة سوداء عاشتها هذه الطفلة الفلسطينية، بين أزيز رصاص عدو للبشرية، يتحرك وسط روائح جثامين شهداء قتلهم بمخالبه الفولاذية، وحصار لا يشبهه أي حصار وقعت بين براثنه مدينتها غزة، قبل العثور عليها ميتة بمنزلة "شهيدة"، برفقة 5 من أفراد عائلتها وفريق إسعاف.. فقط فريق إسعاف يريد مداواة من يجده جريحا.


تلتف دبابات الاحتلال الصهيوني الوحشي كأفعى حول مركبة تحتمي بالجثامين الندية وآهات صرخات هند التي صمّ العالم عنها أذنيه، وترك الريحانة الصغيرة تفارق عالما أعمى، أمام أعينه المغمضة عمّا يجري في قطاع غزة وبقية فلسطين.


مشهدية "موت هند" ليست جديدة في تاريخ المشهديات الفلسطينية الدامية، فخلال تاريخ مقاومتهم لعدوهم المشتعلة منذ أكثر من 76 عاما، تتعمّد بدم الفلسطينيين، وانتهاكات أعدائهم اليومية للشجر والحجر والإنسان والتاريخ، لتعيد الكتابة بالدم أغنية الفلسطيني وذاكرته وروحه وغضبه وشدوه.


وخلال حرب الإبادة الصهيونية التي يدعمها غرب مستمر في وحشيته، مرتديا أسمال الحقوق والديمقراطية، تقوده فيها الولايات المتحدة الأميركية، تحركت مشهديات تسيل منها دماء الفلسطينيين ومحاولات إبادتهم التي لم تتوقف لحظة واحدة منذ قرن تقريبا، وقبل هند، اغتال الاحتلال الوحشي برصاص قناصيه المجرمين، الطفلين الشقيقين ناهد ورامز. كان ناهد يحاول الحصول على مساعدات غذائية بعد عبوره أمكنة ينتشر عليها جنود الاحتلال، الذين كانوا يتلفتون حولهم خشية أن يصلهم رصاص المقاومة فاقتنصوه، لكن ظل فيه رمق حياة، قد يمكنه من النجاة لو أُسعف، إلا أن سيارات الإسعاف أيضا لا تجد لها ممرات أمام وحوش العدو وقتلته. وقد أظهرت الصور التي بثت حول ارتقاء ناهد، أن قتلته كانوا يتسلّون. 


حاول شقيقه رامز اللحاق به لإنقاذه، لكن القتلة، لم يعتادوا رؤية أحد يمكنه التضحية من أجل أحد أفراد أسرته، فما تزال تسري فيهم روح القتل السوداء، تلك التي أورثتها لهم خرافاتهم الدينية، وتعطشهم لقتل الـ"غوييم"، ليتلقى رامز رصاصة فيرتقي شهيدا فوق جثمان شقيقه، في مشهد لم تعتبره محكمة العدل الدولية كافيًا، لإدانة الكيان الصهيوني على جرائمه الهمجية.


جرائم الكيان لم تكن موثّقة بالصور فقط، بل كانت تبث على الهواء مباشرة، وهو ما شاهده العالم الأعمى عند اغتيال الإعلامية شيرين أبو عاقلة أمام كاميرات هذا العالم، وقد منع الإسعاف من الوصول إليها، لتتحول من شاهدة على الحقيقة إلى شهيدتها.


وفي المشهدية الدامية لتاريخ الحرية الفلسطيني، قبل 24 عامًا، شهدنا بعدسة المصور الفرنسي شارل إندرلان المراسل في قناة فرنسا 2، تفنن جنود الكيان الصهيوني بقنص وقتل الطفل محمد الدرة (12 عاما) وعلى الهواء مباشرة.

 

وبالطبع لا يوجد سبب منذ فجر التاريخ حتى اليوم، يمكنه منح أي شخص رخصة قتل طفل، لكن الكيان فوق هذا كله، وبرخصة الغرب وأميركا، يتغذون على الدم والحروب. ويمنحون رخص القتل لمن ينفذ وصايا وحشيتهم.  


ومنذ 100 عام، حين كانت فلسطين تحت حراب الانتداب البريطاني، ومنذ 76 عاما من عمر الاحتلال الوحشي، المثبت بلاصق الغرب ودعمه الذي لا يتوقف، ما يزال الفلسطيني يعيش الموت يوميًا، ففي قرية دير ياسين غربي مدينة القدس المحتلة، أوغلت العصابات الصهيونية آنذاك في إبادة أهلها المسالمين.

 

لم تكن تلك المجزرة توثق فصلا جديدا من تاريخ القتل الصهيوني لشعب يريد أن يعيش فوق أرضه بسلام، بل كانت استمرارا لتاريخ مرعب من المجازر التي ارتكبت على أرض فلسطين على أيدي عصابات شترين والهاغاناه والارغون الصهيونية، يريدون من ذلك، إرهاب الفلسطينيين لترك بيوتهم وأرضهم وتاريخهم، وخلق صور للرعب والإرهاب، وفق الناقد الأدبي والروائي وليد أبو بكر.


ويضيف أبو بكر لـ"الغد" "تفاعل الفلسطيني مع مشهد موت أهله، جعله يحزن لكن دون أن ينسى، بل كان المشهد يشحنه ليقاوم، وهو أمر مرتبط بالجينات والمورث الشعبي الذي يهتف للشهيد عند رفعه فوق الأكتاف، ثم الأخذ بثأره، وهو ما ترسخه المقاومة الفلسطينية منذ لحظة انطلاقها قبل 100 عام، واستمرارها الى اليوم، وهو ما ألقى بظلاله على إطلاق التسميات على أسلحة المقاومين ومعاركهم، كما نرى اليوم ما تسمى به صواريخ "كتائب القسام"، من أسماء شبان شهداء من الضفة الغربية وقطاع غزة تحملها صواريخ مقاتليها، كالشهيد إبراهيم النابلسي ويحيى عياش وأحمد ياسين، وغيرهم.


"الفلسطيني برغم موت من يحب، يعيش التجربة معه"، وفق أبو بكر الذي يضيف أن الموروث الشعبي العربي عامة والفلسطيني تحديدًا، يتعامل مع مشاهد الموت بالطريقة ذاتها، فهو يغني للشهيد نكاية بأعدائه وحفظًا لنضاله وجهاده. مثال ذلك؛ الشهداء الذين أعدموا في قلعة عكا العام 1930: محمد جمجوم وعطا الزير وفؤاد حجازي، وصدحت لأجلهم الأغنية الشهيرة "من سجن عكا" التي أضحت نشيدا شعبيا للحرية والبطولة والشهادة عند الفلسطيني.


وأردف الناقد الأدبي، أن الأغنية الوطنية التي تحمل إشارات الموت والمقاومة، أصبحت موروثا تتناقله الأجيال الفلسطينية، فبرغم أن هذه الأغنية صدح بها الفلسطينيون في العام 1930، وهي تظهر سرعة التسابق بين الشبان الثلاثة على الشهادة، لكن "الحسرة تبقى بعد الشهداء على الأحياء تحديدًا؛ لذلك على الأحياء أن يعيشوا تجربة الموت مرارًا حتى نبتلع الحزن ونتماهى مع الشهداء ثم نقاوم".


حديث أبو بكر، يتطابق مع عبارة الشاعر الفسطيني محمود درويش، الذي أكد أن "الموت لا يوجع الموتى، الموت يوجع الأحياء"، وهو ما يتفق معه أستاذ الفلسفة الغربية المعاصرة في الجامعة الأردنية د. توفيق شومر.


يقول شومر لـ"الغد"، إن الموت سمة أساسية من سمات الوجود، فكل إنسان مصيره الموت، ولكن ومع إدراكنا لهذه الحقيقة، نجد أن التجربة التي يخوضها الإنسان في شعوره بموت الآخرين، هي من أقصى التجارب التي يمر بها.


ويشير إلى أنه "كلما يكون الميت أكثر قربا لنا، يكون الشعور بموته الذي يتشكل في داخلنا أعظم. عليه فإن هذا الشعور المتعاظم الذي يشعر به المواطن العربي بموت الأطفال والنساء في فلسطين عموما وفي غزة اليوم على وجه الخصوص، ينبع أساسا من شعورنا الجمعي بأن فلسطين وشعبها، يقعون في دائرة اهتمامنا المباشرة".


ويرى شومر، أن الشعور يأخذ بعده المتعاظم لإدراكنا أيضا بأن هذا الموت، لم يأت بشكل طبيعي، بل جاء عبر العدوان الصهيوني على شعبنا في فلسطين، والإبادة الجماعية الممنهجة التي يقوم بها.


ويعتقد أستاذ الفلسفة بأننا اليوم ونظرا للدور الذي تقوم به الفضائيات العربية من عرض متواصل للأحداث في غزة، فإن هذا الشعور بالموت والفقد يتعاظم أضعافا مضاعفة.


وتابع "من المفترض أن تكون المشاعر المتشكلة والناتجة عن تجربة موت شهداء غزة، هي مشاعر الغضب، ومشاعر عزيمة للعمل، والاستمرار في العطاء والتضحية، لكي يستمر دعم وتأييد نضال الشعب الفلسطيني، إلى أن ينال حريته ويطرد هذا العدو الغاصب، فالتضحيات يجب ألا تضيع سدى في الطريق الطويل، غير أن الوصول للتحرير لا محالة منه".

 

اقرأ المزيد : 

قصتها هزت العالم.. استشهاد طفلة غزة هند بعد اختفائها منذ 12 يوما