أبو عكرمة الأستاذ محمود الغرايبة


لاحظ أخي الأكبر الأستاذ محمود الغرايبة أنني أختلس مجلة العربي التي كان يداوم على متابعتها، كنت في الصف الأول الابتدائي، فطلب مني أن أقرأ أمامه منها، وكانت مفاجأة أعفتني من العقوبة أنني أقرأ جيدا في المجلة وإن كنت أقرأ في المجلة كما في الكتب من دون ملاحظة الأعمدة في صفحاتها، وبالطبع من دون ملاحظة غياب المنطق فيما أقرؤه، كانت القراءة هدفا لذاتها بالنسبة لي، وليس للفهم أو المعرفة!

اضافة اعلان

بدأ منذ ذلك الوقت يعطيني ملحق العربي الصغير، ثم يستمع إلي طالبا مني إعادة عرض ما قرأته، وكان الاكتشاف المهم بالنسبة لي أن القراءة تمنح المعرفة وليست طقسا روحيا يؤديه الإنسان.

لم يكن إدراك دور المكتبة والمطالعة مسألة عادية في قرية زراعية نائية في الستينيات، وعندما أراد أبو عكرمة وكان مدير المدرسة أن أشارك في مسابقة أوائل المطالعين كانت فكرة غير عملية بالنسبة لكثير من الأساتذة، كما سمعتهم يناقشونه، مجرد تجشم عناء المواصلات كانت عملية صعبة تؤدي إلى المرض أثناء وبعد السفر، في تلك الطرق التي لم تكن تصلح لسير المركبات، وبالكاد يمكن للإنسان والحيوان أن "يتعربشها" ولكنه أصر على المشاركة، وأحرزت الأول على المملكة في مسابقة أوائل المطالعين.

كانت المدرسة عندما استلم أبو عكرمة إدارتها تبدو مثل قادم جديد هبط على العالم، تحرز بطولات في المباريات الرياضية والمسرحيات والمسابقات الثقافة والشطرنج، ويهيمن خريجوها على معظم حصص العشرة الأوائل في اللواء قبل أن يتحول إلى محافظة، وأتذكر عندما نظمت مباريات بطولة المملكة في كرة الطائرة في المدرسة كان المشاركون في المباراة من الطلاب والأساتذة والصحافيين والمشرفين القادمين يستغربون وجود هذه القرية في العالم، ويتعجبون كيف أمكن الوصول إليها، كانت مغامرة بالنسبة لهم أكثر إثارة من المباريات نفسها، تشبه رحلة في المجاهل والغابات. وأسس الأستاذ محمود مع مجموعة من الشباب جمعية خيرية للبلدة، وظل يرأسها حتى قدم جيل جديد مايزال يواصل العمل بإمكانيات ذاتية محدودة ومعقولة للجمعية التي يناهز عمرها اليوم 35 سنة، وتمتلك مبنى جيدا وتدير مؤسسات تنموية لا بأس بها، وإن كانت دون الطموح في هذه المرحلة، وشارك في تأسيس ناد رياضي اجتماعي (توقف بعد عشر سنوات للأسف الشديد!)، وأنشأ في السبعينيات في القرية محددة ومنجرة ومعرضا للادوات المنزلية، ومزرعة بالبيوت البلاستيكية المحمية، وبركة لتربية الأسماك، كانت تبدو تجارب خيالية جديدة في قرية لم تعرف سوى البقالة والزراعة التقليدية.

وكان منذ منتصف الخمسينيات قوميا متدينا، ظل ينظر إلى النضال الوحدوي والقومي باعتباره فريضة دينية، وكان يحافظ على الصلاة في فترة كان فيها معظم الإخوان المسلمين لا يصلون، وعندما شاركت مع الإخوان المسلمين في السبعينيات كان يرى ذلك عملا أخلاقيا تهذيبيا لا يرقى إلى الفكر والنضال النهضوي المطلوب.

ولم يغادر أبو عكرمة بعد ان تجاوز السبعين صوفيته النضالية والدينية، وعندما كنت في الدوحة في الحرب على غزة هاتفني هناك مطالبا بمقالات حارة ملتهبة غير هذه التي أكتبها، لم أقدر على تلبية طلبه، ولكني ما أزلت متعجبا من قدرته على احتمال هذه الصوفية والعاطفة الهائلة التي تنوء بها الجبال، والتي عصف بي عشرها، وجعلتني دكا قبل ان أبلغ الأربعين.