تركيا والعرب.. ولعنة الجغرافيا

أثارت حفيظة العرب خصوصاً، رؤية الشعب التركي يندفع إلى الشارع دفاعاً عن مصلحته المتمثلة في حكم مدني ديمقراطي، وبما أدى إلى إنهاء محاولة الانقلاب العسكري خلال ساعات معدودات. ولن يكون سؤالاً عربياً عابراً ذاك الذي يتردد منذ بدء المحاولة الفاشلة وحتى الآن، عما إذا كانت الشعوب العربية ستتعلم درس الدفاع عن مصالحها الوطنية والإنسانية، وتجبر أيضاً القوى السياسية على تبني هذه المصالح فعلاً –كما فعلت كل أحزاب المعارضة التركية- بدل الارتماء في أحضان كل من يُظن -مجرد ظن- أنه يخدم حسابات حزبية ضيقة، وحتى شخصية، تقوم على المناكفة والانتقام وستر العجز.اضافة اعلان
فإحدى المعضلات الرئيسة في العالم العربي، هي ما يمكن تسميتها "لعنة الجغرافيا" التي ظلت لعقود، إن لم يكن لقرون، تحتضن نماذج متشابهة في مستوياتها التنموية المتخلفة عموماً، كما أنظمة متنكرة في غالبيتها الساحقة لكل حقوق الإنسان. بعبارة أخرى، لم يكد يوجد طوال الفترة الطويلة الماضية نموذج عربي/ إقليمي تتطلع إليه الشعوب لتغيير واقعها البائس على الصعد كافة تقريباً.
لكن "لعنة الجغرافيا" ذاتها ستنقلب في نهاية العام 2010 وبداية العام 2011، من كونها "لعنة" تخدم الأنظمة عموماً، إلى كونها "لعنة" تطاردها، تحديداً مع نجاح الثورة التونسية ضد واحد من أشد الأنظمة قمعية، والتي حفزت بدورها ثورات في دول أخرى بالمنطقة، ذات أوضاع شبيهة بتونس أو أسوأ منها. ولم يكن ممكناً احتواء ذلك إلا بثورات مضادة؛ وجدت دعماً من قوى سياسية ومثقفين عرب لطالما تغنوا بـ"الديمقراطية"، لكنهم قرروا أن "الربيع العربي" محض مؤامرة؛ في تحد لكل قوانين التاريخ والجغرافيا التي تقيم علاقة راسخة لا تقبل الشك بين الفساد والاستبداد، كما هي حال كثير من الدول العربية، وبين الثورات!
طبعاً، كان يُفترض أن يؤدي نجاح محاولة الانقلاب في تركيا إلى تتويج جهود إعادة المنطقة إلى "أصلها"، بحسب المستبدين وأنصارهم، بأنها الاستثناء العالمي الوحيد والأبدي على الديمقراطية؛ فلا يليق بها إلا الاستبداد، وإلا فالإرهاب، لاسيما وأن تركيا قد تكون النموذج الأول الذي دغدغ مشاعر العرب، بإنجازات ديمقراطيتها اقتصادياً واجتماعياً، وليس بهوية حكامها؛ إسلاميين أم غير إسلاميين.
في المقابل، فإن فشل المحاولة الانقلابية، لا بد وأن يعطل بدرجة ما اندفاعة الثورات المضادة وشيطنة الديمقراطية، وليس ذلك إلا لأنه فشل جاء بفضل المواطنين العاديين، من كل فئة ومن كل انتماء سياسي.
لكن إذ ترجّح "لعنة الجغرافيا" الآن مرة أخرى خيار الديمقراطية؛ باعتبارها هي الحامي للدول، فإن مثل هذا الوضع لا يبدو مضمون الاستدامة، في حال استغلال الهبة الشعبية التي أفشلت الانقلاب لأجل مزيد من تركيز السلطة في يد الرئيس رجب طيب أردوغان أو حزبه الحاكم "العدالة والتنمية". فمثل هذا الأمر سيعني إضعافاً للديمقراطية التركية "النموذج"، وإن بقي أردوغان و"العدالة والتنمية". والعالم العربي يتطلع إلى نموذج قابل للحياة، يقوم على احترام إنسانية الإنسان العربي وتحقيق نهضة له، وليس تأبيد حكام، ادعوا العلمانية أم الإسلامية. وهم ما خرجوا بالثورات لو استجاب الحكام في تونس ومصر وسورية وليبيا لأدنى مطالب الإصلاح.