عن حدودنا مع سورية

 

بعد أقل من ثلاث سنوات، سيبلغ عمر حدود بلدنا عموماً قرناً كاملاً. وربما كنا الأقل ترحيباً بولادة تلك الحدود من بين شركائنا، ليس بسبب وعي سياسي خاص، بل لأسباب تتعلق بطبيعة العيش التي كانت تتحكم بالسياسة، وفق معناها في ذلك الزمان، فالبدوي والفلاح بطبيعتهما ينفران من الحدود الصارمة.

اضافة اعلان

مع هذا فهذه الحدود، ورغم أنها وُضعت أصلاً كخط للفصل، فهي ما تزال خطاً للوصل.

للحدود الأردنية السورية تحديداً، تاريخ سياسي واجتماعي واقتصادي غني بالتفاصيل، لقد نما الشعور بوجود هذه الحدود تدريجيا وببطء شديد. ففي العقود الأولى، ابتداء من مطلع عشرينيات القرن الماضي، كان المستعمر على الطرف الآخر "الفرنسي" هو الأكثر عناية برقابة الحدود، وهي المهمة التي كانت مستحيلة حينها، لأن قادة الثورة السورية كانوا يتنقلون عبر الحدود، وكان الأمير عبدالله في سنواته الأولى متبنيا لهؤلاء الثوار وداعما لثورتهم علناً، واحتاج الأمر لسنوات حتى تخلى عن طموحه بتحرير سورية تحت قيادته. أما على المستوى الشعبي فقد كان الناس يعتبرون أنفسهم شركاء.

سألتُ والدي الذي ولد في الرمثا في عشرينيات ذلك القرن، إن كان في صباه وشبابه، يشعر أنه أقرب إلى درعا منه إلى إربد، كمكان لشراء غرض مهم مثلاً، فضلاً عن أن وثائقهم وسجلاتهم ظلت في درعا لسنوات بعد تأسيس الإمارة.

ومثله والدتي المولودة لأم سورية من درعا، التي قالت لي إنها لم تكن حتى خمسينيات القرن الماضي تحتاج لجواز سفر لزيارة أخوالها، وإن رقباء الحدود كانوا بالكاد يسألون الرجال عن شخصياتهم، ولا يسألون النساء. بالطبع نحن نتحدث عن سفر على ظهور الدواب، أو مشيا على الأقدام، لمسافة بضعة كيلومترات فقط، ومن أي نقطة يختارها المسافر.

كان عقدا الخمسينيات والستينيات فترة اضطراب سياسي في سورية، وقد تحسنت العلاقة لزمن محدود في عهد الرئيس شكري القوتلي، إلى درجة أن نقطة الحدود أزيلت في احتفال رسمي في تموز العام 1956 حضره عن الطرف الأردني رئيس الديوان بهجت التلهوني مندوبا عن الملك، ومدير القصر السوري مندوبا عن الرئيس. وقد سبق هذه الإزالة الرسمية، إزالة شعبية للحدود ذاتها من قبل أهالي الرمثا في فترة الاحتجاجات ضد حلف بغداد في نهاية 1955 وبداية 1956.

وحتى العام 1970، كانت على العموم فترة اضطراب في العلاقات وبالذات على الحدود، ومن الإنصاف الإشارة إلى أن مساهمة الأردن في تعديات الحدود كانت أقل بكثير نسبياً. ولعل استلام الرئيس المرحوم حافظ الأسد السلطة في نهاية العام 1970، كان بداية لاستقرار إجمالي في العلاقات، ويسجل الأرشيف ترحيباً رسمياً وشعبياً مباشراً بهذا التغير في السلطة في سورية في حينه، ثم وصلت العلاقة إلى أعلى مستوى في العام 1975/1976؛ حيث أصبحت الحدود شكلية إلى درجة كبيرة؛ حيث صار بمقدور المواطنين الانتقال باستخدام البطاقة الشخصية فقط، واستمر ذلك لسنوات، وفي الواقع بلغ تحسن العلاقة حدا غير مسبوق، فقد أقرت حكومتا البلدين مناهج مشتركة تدرس لطلاب الصفوف الأولى في مدارسهما!

في مطلع الثمانينيات عاد التوتر إلى الحدود، مرة بسبب احتضان الأردن للإخوان المسلمين السوريين الذين خاضوا حربا مع السلطة في بلدهم، ومرة بسبب احتضان الأردن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية التي دخلت في خلاف مع الحكم في سورية.

مؤخراً، وخلال سنوات الحرب على سورية وفي سورية، دخلت سيرة الحدود في مرحلة جديدة، لم يكن الموقف الرسمي الأردني صديقا للموقف الرسمي السوري، لكنه لم يبلغ في خصومته ما بلغته الحدود الأخرى. من الزاوية الوطنية الأردنية الأردنية، استطاع الموقف الرسمي حماية حدودنا، لكنه تعاطى مع القوى المعادية التي استخدمت الحدود. وفي الواقع، علينا أن نتذكر أن الحدود اختطفت من يد الدولة السورية جزئيا منذ بدء الحرب، وكلياً في السنوات الأربع الأخيرة، قبل أن تتحرر من جديد وتعود لسيطرة الجيش السوري.

من المتوقع أن نقاشا طويلا بانتظار قضية الحدود، وتحضر إلى الذاكرة الآن مواقف على الجانبين صدرت خلال سنوات الحرب، لكن ليس صعباً العثور على عناصر إيجابية يمكن البناء عليها في التأسيس لتحول في مسيرة هذه الحدود، يكون مفيداً للشعبين والبلدين.