الثقافة السياسية والديمقراطية: الموقف من الهيئات الوسيطة نموذجا

تعقيبا على مقالي "عدّلوه ولا تسحبوه"، ارسل إلي الأستاذ صالح العرموطي، مشكورا، مجموعة وثائق، منها مذكّرة الى رئيس الوزراء تطلب سحب مشروع قانون النقابات نهائيا وتوضح اسباب معارضة النقابات له.

اضافة اعلان

الموضوع ليس مستعجلا. وقد حسم الرئيس موقفه بعدم سحب المشروع، الذي أصبح تحت تصرف قانونية النواب. لكن مذكّرة نقابة المحامين استفزت رغبتي في مناقشة بعض المفاهيم ذات الصلة بالثقافة السياسية الديمقراطية، تصويبا لمغالطات تقدم بوصفها مسلمات.

المذكرة تعارض وجود الهيئات الوسيطة الواردة في مشروع القانون من حيث المبدأ، لأن الانتخاب المباشر لمجالس النقابات هو "الوسيلة الديمقراطية الحقيقية لأي انتخاب"، ذلك أن الانتخاب غير المباشر -بإجماع فقهاء القانون- كما تقول المذكرة "لا يصلح الا في البلدان المتأخرة والمتخلفة من الناحية السياسية والاجتماعية والثقافية، حيث يصعب على جمهور الناخبين اختيار أحسن المرشحين بأنفسهم لعضوية مجالسهم". والمذكرة تنفي بالطبع ان يكون الشعب الاردني متخلفا وأمّيا وجاهلا، ولا يستطيع اختيار ممثليه بشكل حر ومباشر.

فات المذكّرة ان الهيئة الوسيطة هي برلمان نقابي، ينتخب سلطة تنفيذية هو مجلس النقابة. وفي جميع الديمقراطيات، لا تنتخب السلطة التنفيذية مباشرة. فالشعب ينتخب ممثليه، الذين ينتخبون الحكومة ويستطيعون مراقبتها ومحاسبتها ومتابعة ادائها. وهذه صيغة ديمقراطية متقدمة، فلو كانت الحكومة منتخبة مباشرة، ومرجعيتها الشعب مباشرة، فكيف يمكن متابعتها ومراقبتها ومحاسبتها؟!

البرلمان هو الهيئة الوسيطة بين الشعب والحكومة، والديمقراطية المباشرة وجدت في دولة المدينة القديمة (اثينا مثلا)، حين كان المواطنون الأحرار بضعة مئات، يجتمعون في الساحة العامّة لانتخاب حكامهم. وواقع الحال، ان النقابات مرّت بهذا التطور؛ فهي توسعت من بضعة عشرات او مئات الى ألوف وعشرات الألوف، وقد أصبح مستحيلا ان تجتمع الهيئة العامة بنصاب كامل (النصف+واحد)، فأصبحت القوانين تنص على شرعية النصاب بمن حضر في الدعوة الثانية، وأصبح بضع عشرات يقرّون الموازنات ويقررون كل شيء مكان الألوف، دون تمثيل شرعي حقيقي. وتتسلح المجالس بهذه القرارات بوصفها قرارات "هيئة عامّة"!

مجالس النقابات هي سلطة تنفيذية، وليس تحتها الا الهيئة العامّة التي يستحيل ان تجتمع وتقرر بنصاب شرعي. وكانت النقابات تنتخب مجالسها في اجتماع مكتمل النصاب للهيئة العامّة، يقر التقارير ويأخذ التوصيات، فتم الغاء هذا الاسلوب في مختلف النقابات تباعا لاستحالته، وأصبح الانتخاب منفصلا. وانطباعي ان المحترفين النقابيين لا يعارضون وجود الهيئات الوسيطة تمسكا بالديمقراطية... بل العكس.

ولنتخيل نظاما يقول ان كل مائة مهندس او محام أو طبيب يمثلهم شخص واحد في برلمان النقابة (الهيئة الوسيطة)، سنحصل على برلمان يمثل الجسم المهني بدقة؛ برلمان من مائة محام او طبيب أو مهندس، يمثلون مختلف الاوساط بصورة عادلة -كل التلاوين والتيارات وفئات المصالح والقطاعات والمناطق- ينتخبون سلطة تنفيذية (مجلس نقابة) يمكن مراقبتها ومساءلتها وتوجيهها، برلمان (هيئة وسيطة) يستطيع ان يجتمع دوريا، ويأخذ القرارات بشرعية تمثيلية كاملة.

هذا ما يحدث بالمناسبة في ما اطلعنا عليه من تجارب دول أخرى، أليس هذا افضل من انتخاب مباشر لمجلس من عشرة، تقوم انتخاباته على المناورات والمقايضة والصفقات والحجب، وبدون مرجعية شرعية طوال الفترة بين دورتين انتخابيتين؟!

ان انتخاب برلمان (هيئة وسيطة) بالطريقة آنفة الذكر، أي ان يكون لكل خمسين او مائة عضو (وفق حجم النقابة) ممثل مفوّض لهم، يعني توسيع وتعميق قاعدة التمثيل -والشرعية والديمقراطية بالنتيجة- كما لم يحدث ابدا في النقابات، لكن المشكلة ان المقترح الحكومي قدّم صيغة لتكوين الهيئة الوسيطة شوّهت الفكرة وضربتها وأضعفتها، وقد عارضناها بشدّة، وهذه المعارضة أثمرت انهاء صفة الاستعجال عن القانون لإعادة تمحيص الصيغة بتمهل مع كل الاطراف المعنيّة.

من هنا كانت وجهة نظرنا... عدّلوه لكن لا تسحبوه.

[email protected]