الوشم كان للنساء وصار للرجال

الوشم كان للنساء وصار للرجال
الوشم كان للنساء وصار للرجال

ظاهرة تنقرض


   عمان - ثمة سلوكيات لم تعد تقاس بمقاييس هذا العصر التي تختلف عن مقاييس "أيام زمان" التي أفرزت غرائب وسلوكيات كثيرة، مثل الوشم على الوجه أو اليدين أو الصدر أو الظهر أو غيرها من مناطق الجسم المكشوفة.. أو حتى المستورة.

اضافة اعلان


نعرف أن النساء يلجأن إلى الوشم كنوع من حالات التجميل. لكن أن يذهب الرجل لرسم تنين أو عقرب أو نسر أو غير ذلك من صور الطيور والحيوانات على جسده، فهذا لا يثير الأسئلة. هل تعد مثل هذه العادة تعبيرا عن اظهار القوة والميل للعنف؟ وهل هي صورة من صور الرجولة الغليظة التي تمنح صاحبها ميزة بين أقرانه؟


وإذا كان الوشم قد زين وجوه غالبية نساء الأمس.. فقد اختفى اليوم عن وجوه الفتيان، ولم يعد مادة للزينة في ظل وجود هذه الأنواع الكثيرة من مستحضرات التجميل سهلة الاستعمال، والتي لا تسبب ألما، وكما هو الحال في الوشم، ويمكن تغيير ألوانها وأشكالها حسب الرغبة، بعكس الوشم أيضا.


   وهناك مختصون من الجنسين بعمل الوشم، وليس على الشاب أو الفتاة الراغبين بالوشم  إلا الذهاب عند أحد هؤلاء المختصين والاكتفاء بذكر نوع الوشم فقط، وعليهما بعد ذلك احتمال الألم الذي يصاحب رسم الوشم الذي يبقى مع صاحبه حتى القبر. لذلك فإن قرار "اقتناء" الوشم بالنسبة للمرأة هو قرار حاسم لا رجعة عنه، وغالبا ما كانت الأمهات والجدات هن اللواتي يتخذن قرار وشم بناتهن كنوع من لفت الأنظار إليهن والاعتقاد بأن الوشم يضيف مسحة جمالية للمرأة لا غنى لها عنها.


  "نساء الأمس" يعرفن الوشم جيدا، لذلك تقول عجوز يزين الوشم وجهها: "لا أذكر أن فتاة من بنات جيلي خلا وجهها من الوشم، في تلك الأيام كان مثل هذا الوجه – الخالي من الوشم- هو الذي يثير الدهشة والاستغراب، إذ كان من الواجب، حسب العرف الاجتماعي السائد، وشم الفتاة بين سن (12 - 14) سنة، كإعلان عن دخولها ميدان الحياة، وأنه صار بإمكانها الآن أن تستقبل الخاطبين وأن تتزوج، ما دام هناك وشم على وجهها، باختصار كانت واحدة من مهام الوشم الأساسية في تلك الأيام لفت أنظار الناس إلى الفتاة الموشومة، كي يتقدم العرسان لخطبتها، أما اليوم فإن هذه العادة قد اختفت تماما، حيث أن وجوه بنات اليوم خالية من أي وشم، وكذلك أيديهن وأرجلهن".


الطريقة


   لكن.. كيف يصنع الوشم؟ وما هي المواد التي تدخل فيه؟ وكم هي الفترة التي يستغرقها حتى يعود مكان الوشم إلى طبيعته؟ هذه الأسئلة وكثير غيرها تثير المهتمين بالوشم والباحثين عن أسراره، لكنها تبدو واضحة عندما نستمع إلى عجوز عارفة بكل هذه الأسرار، وننصت لها وهي تقول: "يتم تجهيز أربع أو خمس إبر، وتضم إلى بعضها على شكل حزمة وتربط بخيط شريطة ألا يغطي الخيط رأس الإبرة، بحيث يبقى بارزا، لأن رأس الإبرة تنتظره مهمة أساسية في موضوع تثبيت الوشم وحصره في المكان المراد أن يكون فيه، ويتم إحضار شجيرة "مرار" خضراء تدق بواسطة الهاون حتى تصبح كالعجينة وتوضع داخل شاشة بيضاء ويتم عصرها في فنجان، ثم نأتي بريشة دجاج، فنغمسها في الفنجان ونبدأ بتخطيط الشكل المراد للوشم وفي المكان الذي ترغب فيها الفتاة أو الشاب، مع أن الوشم هو رغبة وعادة نسائية أكثر منها رجالية.


وبعد تثبيت شكل الوشم بواسطة الريشة تبدأ عملية الدق بالإبر، وهي العملية الموجعة التي يجب أن تتحملها الفتاة. ومن فضائل شجيرة المرار أنها تسهم في عملية تخدير جزئي للمكان المراد وشمه، ما يخفف حجم الإحساس بالألم الذي يتركه العمل بالإبر. وبعد أن تنتهي عملية الدق على شكل الوشم كله، يتم مسح المكان وتنظيفه من آثار الدماء السائلة نتيجة الدق بالإبر، ثم نقوم بمسح المكان ثانية بذات السائل المأخوذ من شجيرة المرار ذات اللون الأخضر، ليأخذ الوشم لونه النهائي، وهو في الغالب أخضر اللون أو يميل إلى الزرقة نتيجة اختلاط لون المادة الخضراء بالدم السائل من مكان الوشم. وبعد ذلك يتم مسح المكان ببعض الدهونات لمدة تقارب الأسبوعين، حتى يأخذ الوشم شكله النهائي، ويعود مكانه في الجسم إلى طبيعته، وقد شفي تماما من الآلام التي تركتها عملية الدق بالإبر.


   لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة ونذهب للبحث له عن إجابة يقول أي نوع من النسوة هؤلاء اللواتي يقمن بممارسة "صناعة" الوشم؟ وما هي المواصفات التي يجب أن تتوافر فيهن وتميزهن عن غيرهن من النساء؟


طبيعة العمل الدقيق في مثل هذه المهنة تتطلب امرأة من نوع مختلف، وهذا ما أكدت عليه كثير من العجائز الموشومات اللواتي حاولن رسم صورة تقريبية للمرأة التي تمتهن مثل هذه المهنة، التي لا تستطيع كل امرأة القيام بها. فللمهنة أسرارها أيضا، وهي تشبه إلى حد بعيد "الداية" أي القابلة القانونية، حيث لا تستطيع أية امرأة أن تكون "داية"، فصانعة الوشم يجب أن يتوفر فيها مجموعة من الصفات التي تساعدها على القيام بوظيفتها على خير وجه، ومن هذه الصفات أن تكون عارفة بأنواع الوشم وخصائص كل نوع منه ومدى الصفات الجمالية التي يضيفها لصاحبته، ثم يجب أن تكون يدها "خفيفة" على وجه أو جسد الفتاة الراغبة بالوشم، خاصة وأنها تتعامل بالإبر التي تترك أثرا واضحا، وأن تكون لبقة في الحديث، وتتمتع بقدر واف من الاحترام والتقدير في محيطها، وأن يكون "بالها" طويلا أيضا لأنها تتعامل مع اشخاص يتعرضون للألم. وقبل هذا كله يجب أن تكون على دراية واطلاع تام بصناعة وتحضير المواد الداخلة في صناعة الوشم، كالعشبة والدهون وغيرها، بحيث تذهب إلى تجميل الفتاة لا إلى تشويهها.


وقد تجد أن بنات جيل كامل قد أخذن الوشم على يد امرأة واحدة، كان الجميع يخافها بقدر ما يحترمها، وقد تتطلب الأمور أحيانا أن تسافر البنت وذووها من مكان إلى آخر للجلوس بين يدي صانعة الوشم.


مادة للتندر والاستخفاف


   ومن المفارقات الطريفة التي تتحدث عنها النساء الموشومات وهن بالضرورة من "نساء الأمس" أن الفتاة التي لم تكن تحمل وشما على وجهها أو يديها في تلك الأيام، فإنها حتما ستكون مادة للتندر والاستخفاف من بنات جيلها اللواتي ينظرن إليها مع المجتمع على أنها فتاة "ناقصة الجمال". أما اليوم، فإن الأمور تختلف تماما إلى درجة أن وجود فتاة من بنات اليوم تحمل وشما على وجهها هو حدث نادر الوجود، وهو الذي سيثير الدهشة والاستغراب الآن. في الوقت الذي ذهب فيه الشباب والرجال إلى وشم أذرعهم وصدورهم وظهورهم بأنواع مختلفة من الوشم لاعتبارات متباينة منها إبراز الرجولة والفتوة، والمباهاة بالعضلات وغير ذلك من الاعتبارات. فالوشم قديما كان جزءا من تقاليد القبيلة عند البدو، والفتيات المنتميات لأصول بدوية هن الأكثر تعاملا مع الوشم وحرصا عليه، يلي ذلك بنات الريف، وبدرجة أقل بنات المدينة. لكنك اليوم تجد الفتيات جميعهن "نظيفات" من هذا الوشم، الذي لم يعد مادة للزينة وإبراز ملامح الجمال، كما كان من قبل، في ظل وجود مستحضرات التجميل الكثيرة والمتوفرة لدى بنات اليوم.


   الاهتمام بالوشم الذي تحول مع الزمن من النساء إلى الرجال يثير مجموعة من الأسئلة أيضا، فهل تحول الوشم هذه الأيام إلى ظاهرة رجولية؟ وهل "القبضايات" وحدهم الذي يرغبون بأن يكون الوشم ظاهرا على أجسادهم؟ الأسئلة كثيرة، لكن الإجابة عليها لن تكون دقيقة، لأن المعنيين بهذه الظاهرة والمتعاملين معها لا يملكون إجابة واضحة على الأسئلة كلها، في الوقت الذي يرفض فيه كثير من الشباب التعامل مع هذه الظاهرة التي يقرنها معظمهم بالعنف و"البلطجة" والبحث عن المشاكل.


الموشومون تحديدا هم في الغالب شباب بين سن العشرين والثلاثين عاما، اضطرتهم ظروفهم لدخول السجن لأي سبب كان، وعادة ما يكون السجن مرتبط بقضايا جنائية تحديدا"، فيذهبون هناك إلى وشم أنفسهم، لعدة اعتبارات كما يقول بعضهم، فالوشم هناك نوع من التسلية وقضاء الوقت الطويل، ثم هو نموذج لتحمل الألم والعذاب الذي يتركه الوخز الكثيف والمتواصل بالإبر على جسد الموشوم، وهو كذلك اظهر للفتوة وإبراز لبعض جوانب القوة عند الشخص الموشوم.


وشم المساجين


   طبيعة الوشم تشي بشخصية صاحبها، ويعرف الموشومون أنفسهم من الأشكال التي تحملها جلودهم.. فما هي طبيعة هذه الرسوم؟ نسأل صالح عبد القادر محمود الذي يحمل جسده كثيرا من هذه الرسوم التي تركها ظاهرة للعيان على صدره وظهره وذراعيه، فيقول: "الوشم يدل على صاحبه، ويمنحه شيئا من الهيبة والوجاهة، بخاصة بين زملائه وأقرانه، وكثيرون يرغبون برسم صورة العقاب والنسر على جلودهم كتعبير عن القوة والجبروت، في الوقت الذي يذهب فيه آخرون إلى رسم عقرب مثلا أو رأس حصان أو بومة، لكن نادرا ما تجد شخصا رسم بالوشم وردة على جسده. نحن هناك (في السجن) لا نعترف بالورد، نبحث عن الصور والأشكال التي تعني لنا القوة والعضلات، أما الرسوم التي تدل على الرومانسية فنحن لا نحبها ولا نحترمها وكذلك لا نحترم من ينقشها على جسده، ليجد نفسه تلقائيا خارج دائرتنا".


ويتباهى السجناء هناك بنوع الرسم وحجمه. فلكما كان الرسم كبيرا، فإن هذا يعني أن صاحبه مميز وله وضع خاص بين السجناء، لأن من يتحمل الألم الناتج عن هذا النوع الكبير من الوشم يستحق أن يكون "قائدا" في مجموعته، لذلك يكون التنافس كبيرا بين "رفاق" السجن من أجل أن تحمل أجسادهم هذه الصور الكبيرة للحيوانات المفترسة والقوية.


على أن السجناء – وفي الغالب الشباب منهم - لا يفضلون فقط أشكال الحيوانات، بل يذهب بعضهم إلى نقش اسم أمه أو حبيبته أو بعض أصدقائه المقربين على جسده كنوع من التوبة والحنين، أو نقش عبارات مثل "أحبك يا أمي" أو "سأعود يا أصدقائي" أو "السجن للرجال" أو غيرها من العبارات والأسماء.


   والوشم كما يعرفه الناس ويرونه عدة أنواع، منه ما يكون ظاهرا للعيان ومنه ما يكون مستترا في مناطق أخرى من الجسم، لا يراه إلا الأصدقاء والمقربون، لذلك يحرص الشخص الراغب بالوشم أن يكون المرئي منه قادرا على إعطاء صورة واضحة عنه لكل من سيشاهده أو يلتقي به، لذلك لا تستطيع بناء موقف تجاه أي شخص لمجرد النظرة الأولى أو اللقاء الأول. ويوضح صالح هذا الكلام بـ "فلسفته " الخاصة قائلا: "وعليه فإننا نحرص نحن الموشومين أن تكون صورتنا واضحة عند النساء منذ الوشم الأول المرافق مع النظرة الأولى". ويضيف صالح: "كثير من الناس يستهينون بمثل هذا الوشم ويستهجنون وجوده، معللين ذلك بالقول أن زمن الوشم انتهى، وأن الوشم خلق أساسا للنساء وليس للرجال، أي أنه مظهر نسائي. لكنني أقول لهم إن المرأة كانت فيما مضى تحرص على استعماله كسمة من سمات الجمال في ظل غياب مواد التجميل ومستحضراته. لكن بما أنها متوفرة الآن فإن المرأة لم تعد الآن بحاجة للوشم الذي بات مقتصرا على الرجال وحدهم".


   لكن ثمة فروقا واضحة بين وشم المرأة ووشم الرجل، يقول صالح: "المرأة غالبا تضع وشمها على وجهها وكفيها، ويكون هذا الوشم صغيرا في الغالب لكي لا يشوه الوجه أو يغطي مساحة كبيرة منه، ولا تذهب المرأة مثلا إلى رسم أشكال حيوانات أو غيرها على وجهها أو جسدها، لأن ذلك لا يتلاءم مع طبيعتها كالمرأة، ويقتصر وشمها على خطوط أو نقاط أو أشكال هندسية صغيرة الحجم في الغالب، بعكس الرجال الذين يتباهون بكبر حجم الوشم وغرابة شكله. ثم إنني أتحدى أن تجد رجلا موشوما على وجهه، فهذه ليست من شيمنا، إذ يقتصر الوشم لدينا على الذراعين أو الصدر أو الظهر، ومن يذهب إلى وشم وجهه فإننا لا نعترف به، بل إننا نرفضه ولا نقبل به بين صفوفنا، وغالبا ما يجد نفسه مدعاة للسخرية".