أهم محاججة قانونية في القضاء الإسلامي

د. محمود عبابنة تعد المحاججة القانونية التي دارت بين الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه وبين علي بن ابي طالب كرم الله وجهه من أهم المداولات القانونية في تاريخ القضاء الاسلامي والفكر الاجتماعي والسياسي، وبالإضافة إلى أنها فصلت في مصير المتهم ابن الخليفة عمر بن الخطاب، فقد فصلت في الصراع الخفي بين مفهوم الدولة المدنية في الإسلام في أول عهدها ومفهوم الحميّة والقبلية، وتعتبر ما آلت إليه هذه المناظرة محطة نكوص ورجوع الى الوراء عن الومضات المضيئة في تاريخ دولة المدينة المنورة، والتي ارتقت بإصدار صحيفة المدينة وما تضمنته من ترسيخ لقواعد المواطنة والمساواة وسلطة القانون كمظاهر لمدنية الدولة، ومما جاء في صحيفة او منشور المدينة ما يلي: «هذا الكتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم…. (انهم أمة واحدة من دون الناس)»، والمتفحص لما ورد بهذه النصوص يرى أنها موجهة إلى كيان أمة وليس قبيلة أو طائفة دينية، وأنها ترمي إلى حفظ السلم الأهلي لمجتمع المدينة من المؤمنين أو أهل الكتاب وليس المسلمين فقط. وعودةً إلى وقائع القضية الجزائية، فقد أورد الطبري في كتابه «تاريخ الأمم والملوك»، أنه وعلى إثر مقتل الخليفة عمر بن الخطاب على يد أبي لؤلؤة المجوسي أثناء أداء الصلاة، ولما علم عبيد الله بن عمر بن الخطاب وكان رجلاً شديد البطش أن أبا لؤلؤة طعن أباه عمر أمير المؤمنين، استل سيفه وضرب به «الهرمزان « وهو قائد فارسي أسلم، وكان عمر يشاوره في إخراج الجيوش إلى أرض فارس ويعمل برأيه، فلما ضربه قال الهرمزان: «لا إله الا الله»، ثم مضى الى أحد العرب الغساسنة ويدعى «جفينة»، والذي جاء به سعد بن أبي وقاص ليُعَلم أبناء المسلمين القراءة والكتابة – وهوى بالسيف على «جفينة»، وكذلك قتل ابنة ابي لؤلؤة، ثم راح عبيد الله يهدد الناس قائلاً: «والله لأقتلن رجالاً ممن شرك في دم أبي»، حتى تمت الإحاطة به وتجريده من سلاحه وتم احتجازه تمهيداً لمحاكمته. يهمنا أن نعيد بناء المحاججة القانونية التي دارت في مجلس الخليفة الجديد عثمان عندما جلس لمحاكمة عبيد الله الذي قتل مسلماً وذميين ثأراً لأبيه، في وقت كان الإسلام قد ألغى الثأر وأحل مكانه «القصاص». قال عثمان: أشيروا عليّ في أمر هذا الرجل الذي فتق في الإسلام ما فتق. قال علي: أرى أن تقتله. قال بعض المهاجرين: قُتل عمر أمس ويقتل ابنه اليوم؟ قال عثمان: أنا وليّهم وقد جعلتها ديّة واحتملتها في مالي. قال علي: ليس لك أن تعفو عنه. قال عثمان: بلى، إنه ليس بجفينة والهرمزان من أهل الإسلام حتى يتولى أمرهما، وأنا وليّ أمر المسلمين وأنا أولى بهما. قال علي: إنه ليس كما تقول، إنما أنت في أمرهما بمنزلة أقصى المسلمين، إن عبيد الله قتلهما في إمرة غيرك (يريد إمرة عمر بن الخطاب وعثمان لم يكن قد اختير) وإن الولي الذي قُتلا في إمارته حكم بقتل عبيد الله أن لم تقم البينة على أنهما (الهرمزان وجفينة) أمرا أبا لؤلؤة بالقتل (وكانت هذه وصية عمر)، ولو كأن قتلهما في إمارتك لم يكن العفو لك، فاتقِ الله فإنه سائلك عن هذا. قال عثمان: لا يُرزأ آل الخطاب برجلين في وقت واحد. وعلى هذا عفا عثمان عن عبيد الله وسيّره إلى الكوفة وأقطعه بهما داراً وأرضاً. خلاصة الأمر أن الحوار بين الرجلين ذو أهمية تاريخية كبرى، إنه صراع مكشوف بين اجتهادين متضادين يمثلان نمطين اجتماعيين «الشرع» و «المؤسسة» من جهة، والحمية القبلية والعرف الاجتماعي السابق على الإسلام من جهة أخرى (لا يرزأ آل الخطاب برجلين في وقت واحد)، ثم التبرير الأخلاقي في الدفاع عن «المؤسسة» (فاتقِ الله فإنه سائلك عنه)، ثم هذه المحاججة الفقهية الدقيقة (إن عبيد الله قتلهما في إمرة غيرك وإن الوليّ الذي قُتلا في إمارته حكم بقتل عبيد الله إن لم تقم البينة على أنهما أمرا أبا لؤلؤة بالقتل)، لله درّك يا عليّ… للمزيد من مقالات الكاتب:  اضافة اعلان