حملة القصف الإسرائيلية الفاشلة على غزة

1703201597110113500
صبي فلسطيني يحمل طفلاً في رفح، قطاع غزة، كانون الأول (ديسمبر) 2023 - (المصدر)

العقاب الجماعي لن يهزم "حماس"


في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، قامت إسرائيل بغزو شمال غزة بقوة قوامها أربعون ألف جندي تقريباً.

اضافة اعلان

 

وشنت على هذه المنطقة الصغيرة واحدة من أعنف حملات القصف في التاريخ، فأخلى ما يقرب من مليوني شخص منازلهم.

 

وأفادت وزارة الصحة التي تديرها "حماس" في غزة، بأن أكثر من 15 ألف مدني (من بينهم حوالي 6 آلاف طفل و5 آلاف امرأة) قُتلوا في تلك الهجمات، فيما قالت وزارة الخارجية الأميركية إن الحصيلة الحقيقية قد تكون أعلى من ذلك.

 

وقصفت إسرائيل المستشفيات وسيارات الإسعاف، ودمرت حوالي نصف المباني في شمال غزة.

 

وبالإضافة إلى ذلك، قطعت بصورة شبه تامة إمدادات المياه، والمواد الغذائية، والكهرباء عن سكان غزة البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة.

 

وتعد هذه الحملة، بكل المقاييس، إجراءات عقابية جماعية وعامة ضد المدنيين.


وحتى تاريخ كتابة هذه السطور، في الوقت الذي تتوغل فيه القوات الإسرائيلية في جنوب غزة، ما يزال هذا النهج الإسرائيلي يفتقر إلى هدف دقيق وواضح.

 

وعلى الرغم من زعم قادة إسرائيل أنهم لا يستهدفون سوى "حماس"، يثير الفشل الملحوظ في التمييز بين "حماس" والمدنيين تساؤلات مشروعة حول النوايا الفعلية للحكومة.

 

هل تأتي رغبة إسرائيل الجامحة في تدمير غزة نتيجة لعدم الكفاءة التي أدت إلى الإخفاق الذريع للجيش الإسرائيلي  في التصدي لهجوم "حماس" في السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، على الرغم من أن خطط الهجوم كانت بين أيدي مسؤولي الجيش والاستخبارات الإسرائيليين قبل أكثر من عام؟

 

وهل أن تدمير شمال غزة، والآن جنوب غزة، يمهد لدفع جميع سكان القطاع إلى مصر، على النحو الذي ألمحت إليه "ورقة المفاهيم" الصادرة عن وزارة الاستخبارات الإسرائيلية؟


مهما يكن الهدف النهائي، فإن الدمار واسع النطاق الذي تلحقه إسرائيل بقطاع غزة يثير قضايا أخلاقية جوهرية.

 

وسوف يعني تناول النهج الإسرائيلي من الناحية الاستراتيجية البحتة، أن يُحكم على مصيره بالفشل الحتمي.

 

وقد بدأت علامات فشله في الظهور مسبقًا. فالعقاب الجماعي للمدنيين لم يقنع سكان غزة بالرجوع عن دعم "حماس".

 

بل على النقيض من ذلك، زاد مشاعر الاستياء والسخط بين الفلسطينيين. ولم تفكك الحملة المجموعة التي تزعم إسرائيل أنها تستهدفها.

 

وتثبت هذه الحرب، بعد أن تجاوزت خمسين يوماً حتى الآن، أن إسرائيل قادرة على تدمير غزة، لكنها عاجزة عن تدمير "حماس". بل إن الحركة قد تكون أقوى الآن مما كانت من قبل.


وليست إسرائيل أول دولة ترتكب خطأ التعويل المفرط على أثر القوة الجوية القاهرة. ويدل التاريخ على أن القصف واسع النطاق للمناطق المدنية قلما حقق أهدافه.

 

وكان من الممكن أن يكون وضع إسرائيل أفضل كثيراً لو أنها استفادت من هذه الدروس، وردت على هجوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر) باستهداف دقيق لقادة حركة "حماس" ومقاتليها عوضًا عن شن حملة القصف العشوائية التي اختارتها.

 

ولم يفت الأوان بعد لتغيير المسار والعمل باستراتيجية بديلة تحقق الأمن الدائم، وانتهاج خطة من شأنها أن تُحدث شرخاً سياسياً بين "حماس" والفلسطينيين بدلاً من التقريب بينهما.

 

وتقضي الخطة بمبادرة إسرائيل، من تلقاء نفسها، إلى اتخاذ خطوات نحو تحقيق حل الدولتين.


خسران القلوب والعقول

 


منذ بداية استخدام القوة الجوية كوسيلة قتالية، قصفت الدول أعداءها من أجل حملهم على الاستسلام، وفي سبيل تحطيم معنويات المدنيين.

 

وتتوقع النظرية أن دفع الشعوب إلى حافة الانهيار والانكسار يدعوها إلى الانقلاب على حكوماتها، والخروج عليها ونبذ الولاء لها.

 

وقد بلغت استراتيجية العقاب القهري ذروتها في الحرب العالمية الثانية.

 

ويتذكر الناس من تلك أسماء الأماكن التي استهدفت بالقصف العشوائي في تلك الحرب، مثل هامبورغ (40 ألف قتيل)، ودارمشتات (12 ألف قتيل)، ودريسدن (25 ألف قتيل).


اليوم، ينضم اسم غزة إلى هذه القائمة المخجلة. وقد شبه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الحملة العسكرية الحالية، بمعارك الحلفاء في الحرب العالمية الثانية.

 

وقد نفى نتنياهو تورط إسرائيل في سلوك العقاب الجماعي، ولكنه ذكّر بغارة جوية نفذها سلاح الجو الملكي البريطاني، والتي استهدفت مقر "الغستابو" في كوبنهاغن، وأسفرت عن مقتل العشرات من أطفال المدارس.


وكان ما لم يقله نتنياهو هو أن سعي الحلفاء إلى معاقبة المدنيين عقاباً جماعياً لم يتكلل بالنجاح حتى ولا مرة واحدة.

 

ففي ألمانيا، أدت حملة القصف التي شنها الحلفاء في العام 1942، إلى إلحاق ضرر كبير بالمدنيين، ودمرت منطقة حضرية تلو الأخرى، وبلغ مجموع المدن والبلدات الألمانية المدمرة 58 مدينة وبلدة عشية نهاية الحرب.

 

ولكنها لم تُضعف معنويات المدنيين ولم تؤد إلى تمرد على أدولف هتلر، على عكس توقع مسؤولي الحلفاء حدوث ذلك. بل إن هذه الحملة شجعت الألمان على القتال بعناد خوفاً من السلام الصارم الذي قد يحل بعد الحرب.


ولا يفترض أن يفاجئ هذا الفشل أحداً في ضوء ما ترتب على محاولة النازيين استخدام الأسلوب نفسه.

 

فقد أدت غارات القصف الجوية الألمانية التي استهدفت لندن والمدن البريطانية الأخرى في المدة بين 1940 و1941، إلى مقتل أكثر من 40 ألف شخص. ومع ذلك، رفض رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، الاستسلام.

 

وعوضا عن ذلك، تذرع بالخسائر البشرية الناجمة عن الغارات لحث المجتمع على تقديم التضحيات اللازمة في سبيل تحقيق النصر.

 

وبدلاً من تحطيم المعنويات، حفزت تلك الغارات البريطانيين وحلفاءهم الأميركيين والسوفيات، على تنسيق جهود مديدة أفضت، في نهاية المطاف، إلى شن هجوم مضاد وغزو الدولة التي قصفتهم. 


إن التاريخ لا يذكر حادثة واحدة أدت فيها حملات القصف الجوي إلى حمل المواطنين في البلد المقصوف على الثورة ضد حكوماتهم.

 

وقد جربت الولايات المتحدة هذا التكتيك مرات كثيرة من دون جدوى. ففي أثناء الحرب الكورية، دمرت 90 في المائة من شبكات توليد الطاقة الكهربائية في كوريا الشمالية.

 

كما دمرت، في حرب فيتنام، النسبة نفسها تقريباً من البنية التحتية الكهربائية في فيتنام الشمالية.

 

وفي حرب الخليج، عطلت الغارات الجوية الأميركية 90 في المائة من طاقة توليد الكهرباء في العراق.

 

ولم يحدث في أي من هذه الحالات قيام انتفاضات شعبية على نظام حكم البلد الذي تعرض للقصف.  


وتعد الحرب في أوكرانيا أحدث مثال على ذلك. فعلى مدار ما يقرب من عامين، أرادت روسيا إخضاع أوكرانيا بشنها الموجة تلو الأخرى من الهجمات الجوية المدمرة على المدن في جميع أنحاء البلاد، مما أسفر عن مقتل أكثر من 10 آلاف مدني، وتدمير أكثر من 1.5 مليون منزل، وتشريد نحو ثمانية ملايين أوكراني.

 

ولا شك في أن روسيا تسعى إلى تحطيم أوكرانيا. ولكن، بدلاً من سحق الروح القتالية في أوكرانيا، أدى العقاب الجماعي للمدنيين إلى إقناع الأوكرانيين بمقاومة روسيا بطريقة أكثر صلابة من أي وقت مضى.


حملة تأتي بنتائج عكسية

 


الآن يتكرر هذا النمط التاريخي في غزة. وعلى الرغم من مرور شهرين تقريباً على العمليات العسكرية المكثفة، بينما لم تفعل الولايات المتحدة وبقية العالم شيئاً يذكر لكبحها، لم تحرز إسرائيل سوى نتائج ضئيلة.

 

وبصرف النظر عن المعيار المستخدم في تقويم الوضع، لم تؤدّ الحملة إلى هزيمة "حماس"، ولو جزئياً.

 

وأسفرت العمليات الجوية والبرية الإسرائيلية عن مقتل ما يصل إلى 5 آلاف من مقاتلي "حماس" (بحسب مسؤولين إسرائيليين)، من أصل عدد المقاتلين الإجمالي البالغ 30 ألفاً تقريباً.

 

لكن هذه الخسائر لن تقلل كثيراً من التهديد الذي يواجهه المدنيون الإسرائيليون.

 

وكما أثبتت هجمات 7 تشرين الأول (أكتوبر)، لا يقتضي إلحاق الخسارة بالمجتمعات الإسرائيلية أكثر من بضع مئات من المقاتلين.

 

والأسوأ من ذلك أن المسؤولين الإسرائيليين يعترفون بأن عدد المدنيين الذين تقتلهم الحملة العسكرية يبلغ ضعفي عدد قتلى "حماس".

 

وبعبارة أخرى، لا شك في أن إسرائيل تصنع (إرهابيين) يفوق عددهم عدد الذين تقتلهم، حيث يدفع مقتل مدني واحد أفراد عائلته وأصدقاءه إلى الانضمام إلى "حماس" للانتقام والثأر للقتيل.


على الرغم من أن بنية "حماس" التحتية العسكرية متواضعة، إلا أنها لم يتم تفكيكها بشكل ملموس بعد.

 

وفي أعقاب العمليات التي تباهت تل أبيب بشنها على مستشفى الشفاء، بعد زعم الجيش الإسرائيلي أن "حماس" تستخدمه كقاعدة لعملياتها، لم تنحسر عمليات "حماس" في ضوء ما تظهره مقاطع الفيديو التي نشرها الجيش الإسرائيلي، استولت إسرائيل على مداخل عدد من أنفاق "حماس" ودمرتها.

 

ويمكن إصلاح هذه المداخل بالطريقة نفسها التي بُنيت بها مسبقًا.

 

والأهم من ذلك، يبدو أن قادة "حماس" ومقاتليها قد غادروا الأنفاق قبل دخول القوات الإسرائيلية إليها، ما يعني أن الجزء الأكبر من الحركة نجا من الدمار.

 

وعلاوة على ذلك، تتمتع "حماس" بميزة تتفوق بها على القوات الإسرائيلية: ففي مستطاع مقاتليها التوقف عن القتال، والاندماج في صفوف السكان المدنيين، والبقاء على قيد الحياة للقتال مرة أخرى في ظروف أفضل. ولذلك، فإن أي عملية برية إسرائيلية كبيرة محكومة بالفشل.


وعلى مستوى أعم، لم تنجح الحملة العسكرية الإسرائيلية في إضعاف سيطرة "حماس" على غزة بقدر يعتد به.

 

ولم تخلِّص إسرائيل إلا رهينة واحدة من 240 رهينة اُسرت في هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر). أما الرهائن الآخرين المحررين، فكانت "حماس" هي التي أطلقت سراحهم.

 

وهذا دليل على أن الحركة ما تزال تتمتع بالقدرة على إدارة مقاتليها والسيطرة عليهم.


وعلى الرغم من النقص الكبير في الطاقة، والدمار الواسع في جميع أنحاء غزة، تواصل "حماس" إنتاج مقاطع فيديو دعائية تُظهر الفظائع التي ترتكبها القوات الإسرائيلية في حق المدنيين، والمعارك الضارية التي تدور بين مقاتلي "حماس" والجيش الإسرائيلي.

 

وقد أصبحت بروباغندا الحركة متداولة على نطاق واسع عبر تطبيق المراسلة "تليغرام"، وتحظى قناتها بأكثر من 620 ألف مشترك.

 

ووفقاً لإحصائيات مشروع جامعة شيكاغو حول الأمن والإرهاب (الذي أتولى إدارته)، نشرت "كتائب القسام"؛ جناح "حماس" العسكري، ما يقرب من 200 مقطع فيديو وإعلان في الأسبوع، في الفترة بين 11 تشرين الأول (أكتوبر) و22 تشرين الثاني (نوفمبر)، عبر تلك القناة.


الأرض مقابل السلام

 


إن الطريقة الوحيدة لإلحاق هزيمة دائمة بـ"حماس" تتلخص في استهداف قادتها ومقاتليها وفصلهم عن السكان المحيطين بهم. لكن قول ذلك أسهل من فعله، خاصة وأن "حماس" تجند مقاتليها مباشرة من السكان المحليين وليس من الخارج.


في الحقيقة، تُظهر الأدلة التي تم جمعها من خلال الاستطلاعات إلى أي مدى تسهم العمليات العسكرية الإسرائيلية، الآن، في خلق (إرهابيين) يفوق عدد الذين يُقتلون.

 

وفي استطلاع لرأي الفلسطينيين أجراه "مركز العالم العربي للأبحاث والتنمية"، في 14 تشرين الثاني (نوفمبر) في غزة والضفة الغربية، قال 76 في المائة من الذين استُطلعت آراؤهم، أنهم ينظرون إلى "حماس" بشكل إيجابي.

 

وفي المقابل، في أيلول (سبتمبر)، كان 27 في المائة من المشاركين في استطلاعات أخرى للرأي، في كلتا المنطقتين، أن "حماس" هي "أجدر جهة بتمثيل الشعب الفلسطيني".

 

والمعنى الضمني لذلك يثير القلق. فهو يعني أن شريحة كبيرة من الفلسطينيين الذكور الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و34 سنة، والبالغ عددهم أكثر من 500 ألف، جاهزون للانضمام إلى "حماس" أو غيرها من الجماعات الفلسطينية التي تستهدف إسرائيل ومدنييها.


وتتفق هذه النتيجة مع الدروس التاريخية المستفادة من الماضي. فخلافاً للرأي السائد، لا يختار أغلب الإرهابيين الإرهاب بسبب الدين أو الأيديولوجيا، على الرغم من أن بعضهم قد يفعل ذلك من غير شك، لكن معظم الذين يعتنقون الإرهاب إنما يفعلون ذلك لأن أرضهم سُلبت منهم.**


وعلى مدى عقود، ركزت بحوثي على الإرهابيين الأكثر تطرفاً؛ أي الإرهابيين الانتحاريين. وتعد الدراسة التي أجريتها وتناولت 462 شخصاً قتلوا أنفسهم في عمليات هدفت إلى قتل أشخاص آخرين في أعمال إرهابية، بين العامين 1982 و2003، أوسع دراسة إحصائية لهذا الصنف من الناس.

 

ووجدتُ أن ثمة، بين هؤلاء، مئات من الانتحاريين العلمانيين. والجماعة التي تتصدر، عالمياً، الإرهاب الانتحاري، هي حركة "نمور التاميل".

 

وهي جماعة ماركسية مناهضة للدين، علناً، في سريلانكا، نفذت هجمات انتحارية أكثر مما نفذته حركتا "حماس" أو "الجهاد الإسلامي" في فلسطين (الجماعتان "الإرهابيتان" الفلسطينيتان الأكثر فتكاً) مجتمعتين.

 

وكان ما اشترك فيه 95 في المائة من الإرهابيين الانتحاريين، في قاعدة بياناتي، هو قتالهم الاحتلالَ العسكري لأرضٍ يعتبرونها وطنهم.


وفي الفترة ما بين 1994 إلى 2005، نفذت "حماس"، وغيرها من الجماعات (الإرهابية) الفلسطينية، أكثر من 150 هجوماً انتحارياً، أسفرت عن مقتل حوالي 1.000 إسرائيلي.

 

ولم تتخل هذه الجماعات عن هذا التكتيك، بشكل كامل تقريباً، إلا عندما سحبت إسرائيل قواتها العسكرية من غزة.

 

ومنذ ذلك الحين، ازداد عدد الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية 50 في المائة. وهو أمر يفاقم مصاعب سيطرة إسرائيل على هذه المناطق على المدى البعيد.

 

وتدعونا أسباب كثيرة إلى الاعتقاد بأن الاحتلال العسكري الإسرائيلي المتجدد لغزة، إلى "أجل غير مسمى" على حد قول نتنياهو، سيؤدي إلى موجة جديدة من الهجمات الانتحارية ضد المدنيين الإسرائيليين، وربما أقسى من سابقاتها.


مشكلة الاستيطان

 


على الرغم من أن للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني وجوهاً كثيرة، ثمة وجه واحد يسهم في جلاء الصورة المعقدة.

 

ففي كل عام تقريباً منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي، زاد عدد السكان اليهود في الأراضي الفلسطينية زيادة متصلة، ولا تُستثنى من ذلك سنوات "عمليات أوسلو" في التسعينيات.

 

ويعني نمو المستوطنات خسارة الفلسطينيين أراضيهم، وزيادة المخاوف من مصادرة إسرائيل مزيداً من الأراضي، وتوطين المزيد من اليهود في الأراضي الفلسطينية.

 

ودعا يوسي داغان، وهو مستوطن بارز (رئيس المجلس الاستيطاني) وعضو في حزب نتنياهو، أمثاله إلى بناء المستوطنات في غزة. وللعلم، كانت آخر مستوطنة في غزة قد فُككت في العام 2005.


ويؤدي نمو السكان اليهود في الأراضي الفلسطينية دوراً رئيساً في تأجيج الصراع. وفي الأعوام التي تلت الحرب العربية-الإسرائيلية في العام 1967 مباشرةً، لم يكن عدد اليهود الإجمالي، والمقيمين في الضفة الغربية وغزة، يتجاوز بضعة آلاف.

 

وكان نوع من الانسجام يسود العلاقات الإسرائيلية-الفلسطينية في معظم الأحوال. وفي تلك المدة، لم تقع هجمات انتحارية فلسطينية، ونادراً ما حصلت هجمات من نوع آخر.


لكن الأمور انقلبت رأساً على عقب مع وصول حكومة يمينية، بقيادة حزب الليكود، إلى السلطة في العام 1977، ووعدها بتوسيع كبير للمستوطنات.

 

وقد ارتفع عدد المستوطنين من حوالي 4 آلاف في العام 1977، إلى 24 ألفاً في العام 1983، ثم إلى 116 ألفاً في العام 1993.

 

وقبيل العام 2022، كان حوالي 500 ألف مستوطن يهودي إسرائيلي يعيشون في الأراضي الفلسطينية، باستثناء القدس الشرقية، حيث يقيم 230 ألف يهودي إضافي.

 

ومع نمو المستوطنات، تبدد الانسجام النسبي بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

 

فنشأت حركة "حماس" في العام 1987، ثم اندلعت الانتفاضة الأولى بين العامين 1987 و1993، والانتفاضة الثانية بين العامين 2000 و2005. واستمرت جولات الصراع وتعاقبت بين الفلسطينيين والإسرائيليين منذ ذلك الحين.


كان السبب الرئيسي في خسارة حل الدولتين صدقيته منذ التسعينيات هو نمو المستوطنات اليهودية على نحو شبه متصل.

 

ويتعلق حظ مسار جدي لقيام دولة فلسطينية في المستقبل بتوقف هذا النمو.

 

ففي نهاية المطاف، ما الذي قد يحمل الفلسطينيين على رفض "حماس" ودعم عملية سلام مفترضة، إذا لم ينتج عن هذا الرفض سوى خسارة المزيد من أراضيهم؟


سلام دائم

 


لذلك، فإن حل الدولتين وحده يؤدي إلى جلب أمن دائم للإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء. وهذا هو النهج الوحيد العملي والقادر على تقويض "حماس" فعلاً.

 

ولهذا يمكن، بل يجب على إسرائيل أن تمضي نحو خطة منفردة، وأن تتخذ خطوات من تلقاء نفسها وقبل مفاوضة الفلسطينيين في هذا الاتجاه.

 

وينبغي أن يكون الهدف هو إحياء العملية التي ظلت ميتة منذ فشل المفاوضات الأخيرة في العام 2008 قبل 15 عاماً.

 

ويتعين على إسرائيل، من غير غموض، أن ترفق النهج السياسي بآخر عسكري، فتشن عمليات محدودة ومتواصلة ضد قادة "حماس" ومقاتليها الضالعين في الفظائع التي ارتكبت في السابع من تشرين الأول (أكتوبر).

 

وعلى إسرائيل، من جهة أخرى، أن تدرج في هذه الاستراتيجية العنصر السياسي على الفور وليس لاحقاً.

 

ولا ينبغي أن تنتظر مجيء زمن أسطوري أو خيالي تنجز فيه انتصاراً كاملاً على "حماس" بواسطة القوة العسكرية وحدها.


إن أولئك الذين يشككون في إمكانية التوصل إلى حل الدولتين محقون في الحقيقة حين يتوقعون أن استئناف المفاوضات المباشر مع الفلسطينيين لن يضعف رغبة "حماس" في القتال.

 

فالحركة تؤيد، من غير لبس، فكرة القضاء على إسرائيل. وهي، ثانياً، أكبر الخاسرين من حل الدولتين.

 

فلا شك في أن أي اتفاق سلام سوف ينص على حظر الجماعات الفلسطينية المسلحة، باستثناء منافس "حماس" الداخلي الرئيسي؛ أي "السلطة الفلسطينية".

 

ومن المرجح أن تتمتع هذه السلطة بدعم وشرعية متجددتين إذا تمكنت من عقد اتفاق تدعمه غالبية الفلسطينيين.

 

وحتى في حال التوصل إلى حل الدولتين، تبقى إسرائيل في حاجة إلى قدرات دفاعية قوية. فليس هناك حل سياسي قادر على القضاء بشكل تام على تهديد الإرهاب إلى أعوام مقبلة.


لذلك، ينبغي ألا تكون الغاية المباشرة طرح خطة نهائية لحل الدولتين، لأن ذلك خارج عن إطار الاحتمالات السياسية في الوقت الحالي.

 

وعوضا عن ذلك، ينبغي أن يكون الهدف المباشر هو بدء مسار يؤدي، في نهاية المطاف، إلى إقامة دولة فلسطينية.

 

وعلى الرغم من مزاعم المشككين بأن مثل هذا المسار مستحيل لأن إسرائيل تفتقر إلى شركاء فلسطينيين مناسبين، تستطيع تل أبيب اتخاذ خطوات حاسمة بمفردها.


إن الطريقة الوحيدة لهزيمة "حماس" تتلخص في دق إسفين سياسي بينها وبين الشعب الفلسطيني.
وفي مستطاع الحكومة الإسرائيلية إعلان أنها تنوي الوصول إلى وضع يعيش فيه الفلسطينيون في دولة يختارونها، جنباً إلى جنب مع دولة إسرائيل اليهودية.

 

ويمكنها إعلان أنها تعتزم تطوير عملية تؤدي إلى تحقيق هذا الهدف في العام 2030، على سبيل المثال، وأنها ستحدد خطوات على طريق هذه الغاية في الأشهر المقبلة.

 

ويمكنها أن تعلن أنها قررت، على الفور، تجميد بناء وتوسيع المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، والتخلي عن بناء مثل هذه المستوطنات في غزة حتى العام 2030، كضمانة أولية تثبت صدق التزامها بحل الدولتين فعلاً.

 

ويمكنها إعلان أنها راغبة في العمل مع جميع الأطراف؛ أي جميع الدول في المنطقة وخارجها، وجميع المنظمات الدولية، وجميع الأطراف الفلسطينية المستعدة لقبول هذه الأهداف.


يجب أن تكون هذه الخطوات السياسية جزءا لا يتجزأ من العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد "حماس"، ومن شأنها أن تعزز جهوداً مستدامة وموجهة بدقة للحد من خطر الهجمات التي تشنها الحركة على المدى القريب.

 

وسوف تستقي عملية مكافحة (إرهاب) فعالة المعلومات الاستخبارية من السكان المحليين، والتي قد يكون السكان أكثر استعداداً لتقديمها إذا كانوا يأملون في وجود بديل سياسي حقيقي للجماعة (الإرهابية).


إن الطريقة الوحيدة لهزيمة "حماس" على المدى الطويل هي دق إسفين سياسي بينها وبين الشعب الفلسطيني.

 

والخطوات الإسرائيلية الأحادية الجانب، وإذا اقترنت بالتزام جدي بمستقبل جديد، سيكون في مقدورها تغيير إطار العلاقة الإسرائيلية-الفلسطينية، ودينامياتها، وتمنح الفلسطينيين بديلاً حقيقياً يحل محل دعم "حماس" وتأييد العنف.

 

وفي المقابل، سيحصل الإسرائيليون على مزيد من الأمن. ويسلك الطرفان، أخيراً، الطريق المؤدي إلى السلام.


لا ريب في أن الحكومة الإسرائيلية الحالية لا تبدي أي علامات على انتهاج هذه الخطة. وقد يتغير الأمر إذا قررت الولايات المتحدة استخدام نفوذها.

 

ففي وسع البيت الأبيض ممارسة مزيد من الضغوط السرية على حكومة نتنياهو في سبيل الحد من هجمات الحملة الجوية العشوائية.


وقد يكون الإجراء الأهم هو مسارعة واشنطن إلى فتح مناقشة عامة وواسعة لسلوك إسرائيل في غزة.

 

وقد تمهد هذه المناقشة إلى دراسة الاستراتيجيات البديلة، وتوفر معلومات عامة غنية للأميركيين والإسرائيليين، والناس في جميع أنحاء العالم، تخولهم تقويم العواقب بأنفسهم.

 

وقد ينشر البيت الأبيض تقويم الحكومة الأميركية للتأثير الذي خلفته الحملة العسكرية الإسرائيلية في غزة على "حماس" والمدنيين الفلسطينيين.

 

وقد يعقد الكونغرس جلسات استماع تعالج سؤالاً بسيطاً: هل تنتج هذه الحملة (إرهابيين) أكثر مما تقتل؟


يوماً بعد آخر، يتأكد فشل النهج الإسرائيلي الحالي.

 

ولذلك، قد تكون المناقشة العامة والمستمرة لهذا الواقع، مقترنة بدراسة جدية للبدائل الذكية، خير فرصة لإقناع إسرائيل بالقيام بما يخدم، في آخر الأمر، مصلحتها الوطنية الخاصة.

*روبيرت أ. بايب: أستاذ العلوم السياسية، ومدير مشروع جامعة شيكاغو للأمن والتهديدات، ومؤلف كتاب "القصف للنصر، القوة الجوية والإخضاع في الحرب". مترجم من فورين أفيرز، 6 كانون الأول (ديسمبر) 2023.

**يُلاحظ أن المؤلف يطلق وصف "الإرهاب" على أعمال يقول إنها تستهدف التخلص من الاحتلالات ويتجنب وصفها بـ"المقاومة". وهو ينسجم بذلك مع الخطاب الغربي السائد المتناقض بشأن هذه التعريفات.

 

اقرأ المزيد في ترجمات:

  لماذا لن تتغير إسرائيل؟