لماذا الفلسفة؟

سائد كراجة

الفلسفة علم الأسئلة، والفلسفة تهتم بتوليد الأسئلة أكثر منها عناية بتحضير الإجابات، ولهذا خشي البعض من أن أسئلة الفلسفة عن الله والكون والإنسان تودي إلى الإلحاد، وتضيع الوقت واعتبروها علما لا ينفع وناصبوها العداء.

اضافة اعلان

والحقيقة أن الفلسفة باعتبارها علم الأسئلة فطرة إنسانية حتى أنك تستطيع أن تقول: أن الإنسان « كائن متسائل» ولعل أطفالنا خير دليل على ذلك، فلو ترك الآباء لأبنائهم المجال لما توقفوا عن السؤال وعن البحث والمراقبة وإثارة حرج الآباء، وأذكر أن أول تفلسفي أمام والدي – رحمه الله- كان عندما سألته: من خلق الله؟ أجابني بهدوء ودون أي انفعال: الذي خلقك، قلت له ولكن من خلقني؟ قال لي ببرود أكثر من الأول، الله، ولعل قبوله لأسئلتي تركني متفكرا حائرا ولكنه أيضا تركني في مجال الإيمان بأن الله أصل الخلق وأساس خلق كل شيء!

بما فيهم أنا، وظللت طوال رحلتي الإيمانية في مرحلة تصديق عميق بوجود الله وخلقه للبشر، ولكن اللذة العميقة التي تركها ذلك الحوار القصير بيني وبين أبي شكلت حافزي الدائم نحو حب المعرفة والسعي إليها.

في الجامعة تلهفت لحضور مادة الفلسفة مع الدكتور أحمد ماضي – أمده الله بالصحة والعافية- وأذكر أن الدكتور ماضي تحدث قليلا، وترك لكل منا تحضير المادة وعرضها على الصف، وكان دوري الحديث عن الفلسفة والدين، واكتشفت حينها أن الفلسفة لا ترتبط بالإلحاد وأن مدرسة الفلسفة الإيمانية قديمة قدم اليونان ومستمرة إلى الآن، والمؤمنون من الفلاسفة ربطوا الإيمان بالعقل ومنطقوا الغيب بالاستدلال العقلي، فأسسوا أكثر مدارس التدين صلابة، وهم أعمدة الثقافة الأوروبية التي بنت بعدها حضارة مادية لكنها لم تهجر الدين ولم تهجر التدين فالقول إن المجتمع الغربي مجتمع ملحد قول غير دقيق فإن أكثر المؤمنين اليوم موجودون في العالم الغربي وأميركا.

لقد اهتم المسلمون أيضا بالفلسفة، ونعم هنالك فلسفة إسلامية وفلاسفة مؤمنون، صحيح أن مجال الفلسفة ترك شخصا ملحدًا كأبي الحسن الراوندي، ولكنه ترك كثيرا من فلاسفة الإسلام المؤمنين ومنهم ابن رشد الفيلسوف الإسلامي الشهير والطبيب وقاضي قرطبة!

إن الذين منعوا الفلسفة في المدارس سابقا قوم مرعوبون من السؤال، قوم متشككون من صلابة إيمانهم وكأن الطريق الوحيد للسؤال هو الإلحاد! وهم وبسبب رعبهم غير المبرر وضعف إيمانهم بإيمانهم قلقون من أن السؤال يتحدى إيمانهم وعقيدتهم، وأنا أدعوهم لترسيخ إيمانهم بالفلسفة والسؤال والتفلسف ولقد أمر الله تعالى الناس في القرآن بالتفلسف في سورة العنكبوت آية (20) « قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق؟) ولو كان لي أن أترجم كلمة فلسفة لقلت: هي علم النظر، فالنظر يعني السؤال وتقليب الأمر وتمحيصه والبحث فيه.

السؤال والنظر والتفكر أصل العلم وعماد إعمار الأرض وبالسؤال بدأت المعرفة والإيمان والاختراع والتطور والتحضر وبناء الإنسانية الواحدة ومنه جاءت التكنولوجيا، فمن يمنع الفلسفة يمنع الأسئلة ويمنع العقل الذي هو أساس حياة الناس، ويجب أن يكون الإسلام والمسلمون أقل الناس خوفًا من الأسئلة لأن الإسلام وضع قانوناً كونياً لحرية العقيدة وكأنه اشترط في الإيمان قناعة العقل والإرادة فأَعلن في أهم قانونٍ كوني لحرية الاعتقاد (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) ولهذا تواترت آيات القرآن الكريم تحث على التفكر والتعقل والتأمل والنظر.

هناك من نصَّب نفسه شرطيا على الإسلام، ولكن أغلب هؤلاء الشرطة يبشرون برعبهم وضعف إيمانهم أكثر مما يبشرون

بما جاء في القرآن والسنة وهم بهذا وضعوا الدين في خانة المرعوبين من الفلسفة والسؤال والفن والحضارة المادية وربطوا الدين بكل ما هو وهن وخوف وضعف وتوجس.

ولكن علينا التحذير من فهم أن إقرار تدريس الفلسفة هو الترياق لإشكاليات النظام التعليمي في الأردن، فحصة فلسفة منبتّة عن سياق شامل في نظام تعليمي يحرص على تشجيع التفكير المنطقي وثقافة النقاش والجدل وطرح الأسئلة ستفضي إلى أن تكون مادة الفلسفة عبئا أكثر منها حلا لتشجيع التفكير والتعقل والعقلنة .

الحرية الفكرية أساس عمارة الأرض، والحرية ليست مطلقة بذاتها لكنها ليست مرعوبة من التجربة ولا من السؤال والسعي في مناكبها لعمارة الأرض، لا تحرموا أطفالنا السؤال، وهم في عصر الانفجار المعرفي والتواصلي بحاجة ماسة للسؤال وتعلم قيم الإنسانية الخالدة، ولا تخشوا عليهم من السؤال فإنه هو الطريق لإنسان واثق بإيمانه مهما كان، قوي غير مرعوب ولا معزول وقادر على التعبير والدفاع عن خياراته.

درّسوا الفلسفة والمنطق وسانِدوا أولادنا ليعيشوا أحرارا منطقيين قادرين على الدفاع عن خياراتهم فلا خوف من الفلسفة على الدين، ولكن الخوف الكبير من أطفال لا يسألون ومجتمع لا يحترم التعدد ونظام تعليمي يفتقر للأسئلة والنظر والبحث العلمي. دعوهم يتفلسفون جنابك !

المقال السابق للكاتب 

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا